مذكرات أستاذ جامعي.. من أبراج الخليج إلى قصور مأرب 3
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنتين و شهرين و 6 أيام
الأحد 23 أكتوبر-تشرين الأول 2022 05:43 م

في آخر الحلقة الماضية تحدثتُ عن وصولنا مدينة مأرب عشاءً بسلام، بعد رحلة شاقة مليئة بالمخاطر والخواطر وكان حديثٌ عن عَبق رياح وروح الثورة السبتمبرية والأكتوبرية والوحدوية الشامخة، في مأرب، وأواصل في هذه الحلقة الحديث عن مأرب الإنسان الحضارة والتاريخ. فأثناء دخولي مدينة مأرب شعرتُ أنّ اليمن كلّها في حَنايا وأنحاء وأحضان مأرب، فعَلَمُ اليمن الموحّد يرفرف حيثما نَظرتْ عيناك، وبمقاسات باذخةٍ جدًا، تعكس عمق الإيمان الوطيد بالوحدة ومبادئ الثورة والجمهورية والديمقراطية الشوروية، فالمحلات التجارية والدوائر الحكومية تتنافس في تغطية مبانيها ورفع أمتار من العَلَم الجمهوري، حتى سائقي العربيّات اليدوية والصغار والكبار والرجال والنساء والعجائز والشيوخ، توشّحت جباههم بعلَم الجمهورية اليمنية، وكأنّ اليمن الموّحد وُلد للتوّ، في بهجة وسرور وفرحٍ تدمع له العين بهجةً وسرورًا، لم أشهده طوال حياتي. زاد من روعة أفراح الشارع المأربي تلكم السيارات التي تجوب كل صباح شوارع مأرب، بأناشيد الحنجرة الذهبية لفنان الجمهورية أيوب طارش عبسي، سيما أنشودته التاريخية: "وهبناكِ الدّم القاني، وهل يغلى عليكِ دمُ" ويكاد البث الإذاعي بثًا لأناشيد الثورة وبالأخص أغاني أيوب، ولم تعد الأنشودة الوطنية في مأرب ترفًا فنيًا، بل تجد أمام ناظريك تجسيد هذه الأناشيد والكلمات الوطنية، فترى في الحال بعض الأطقم القادمة من الجبهات، شرقًا وغربًا، وعليها مُؤن الجنود وهم ما بين ملقىً نائم من الإرهاق والتعب والنصب، أو جريح، أو جندي تكسوه أتربة الوطن وأغبرته، وفي الحديث: ( غبار ساعة في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها). سرّني جدًا هذا المشهد الثوري الفريد والعجيب، فقلتُ أهاتف بعض الأقارب في المحافظات الجنوبية، فأولادي وأمهم في زيارة لوالديهم، علّ وعسى أنْ أجد طريقًا آمنةً نحوهم لأحملهم وأعود بهم إلى أرض المهجر، لاستكمال دراسة الأبناء، فكان جواب الأقارب إحذر إحذر تسافر نحو عدن وما حولها، مطلقًا، فنقاط المجلس الانتقالي -سيما تلك التي في لحج ويافع والضالع- سيأكلونك كما تؤكل الكُفْتَة، باعتبارك محتلاً شماليًا، فقلتُ أنا سلفيٌ سنيٌ شافعيٌ حُديديٌ محمديٌ متصوف، فما علاقة مغترب مثلي بمشاكل الشمال والجنوب، وأيضا حتى لُقيا هاني بن بريك قد ثبتت لي لُقيته لبضع دقائق في مسجد عبد الرحمن بن عوف، ألا تشفع لي كل هذه للعبور نحو أهلي وأبنائاي؟!! قالوا لا ، لا ، فالمعيار لدى تلك النقاط الأمنية الانفصالية هو كونك تحمل جوازًا أو بطاقةً شمالية، ولو كنت مغتربًا أو حتى جنوبيًا وبطاقتك شمالية!!!! احذر احذر!. ثم علمتُ أنْ لا وجود للجمهورية اليمنية وأعلامها في كثير من المحافظات الجنوبية التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي، رغم أنّ رئيسه ، عيدروس، هو عضو في مجلس القيادة الرئاسي، للجمهورية اليمنية، ويستظل بعلَم الجمهورية اليمنية! ولو بحثتَ بمجهر إلكتروني عما يسمى بالجمهورية اليمنية وصور فخامة الرئيس رشاد العليمي، مدير جهاز الأمن القومي الأسبق، لن تجدها إلا في مأرب وتعز وسيئون وربما على استحياء في حضرموت!. وبالطبع فأنا أعرف جيدًا الخلفية الثقافية والتعبئة الفكرية الخاطئة لأفراد وقيادة المجلس الانتقالي، وأنّ أكثرهم بقايا الفكر الاشتراكي والسلالي. ومن لطائف القدر الجديرة بالتسجيل والإثبات في هذا المقام أنني وجدتُ في الدوحة شيخًا حضرميًا حافظًا للقرآن بالقراءات السبع أو العشر، غاية في الطيب واللطف، وهو من مهجّري الحزب الاشتراكي، في الثمانينيات، أقسم لي لا يستثني أنه رأى بأم عينه دفن بعض علماء حضرموت أحياءً على أيدي أعضاء الحزب، قبل الوحدة اليمنية، ورأى بأم عينه سلْخ بعض شيوخ البلد بربط رجْلٍ في سيارة وأخرى في سيارة أخرى!. وسألته وأنت كيف نجوتَ؟! ، قال هربتُ إلى صنعاء والتحقت بدار القرآن الكريم، وتزوجت خولانيةً، وهاجرت إلى الدوحة عام 1998م. لذا ألغيتُ فكرة السفر نحو بعض أهلي في جنوب اليمن، والسعيدُ من اتعظ بغيره، وقلتُ إذن أسافر نحو والدتي حفظها الله المسنّة في الحديدة، فمنذ ثماني سنوات أو تسعًا لم أرها، واستشرت أخي فقال محالٌ أن تسافر، فالمنطقة ملغومة بالأفكار الشريرة وتحولتْ إلى مذاهب شتى وأحزاب متناحرة، ولو رأوك لأكلوك كما تؤكل المرْسة التهامية، (المرْسة: وجبة تهامية عبارةٌ عن سمنٍ وعسل وبُرٍ ملتوتٍ بالزيت الفاخر، وموز، مجموعًا كل ذلك في إناء واحد أو طاسة واحدة من المعدن أو الفخار) وقال لي أُخيّ حتى خطيب مسجد القرية قد تغيّر مذهبه في آخر عمره، وقد كان يؤتى إليه كل يوم بالكدم والأطعمة والقات والشمّة الفاخرة، حتى ترك البَكرية والعُمرية، ثم قُطعت عنه كل تلك الأغذية والمؤن والطحين، وصعُب عليه أن يغيّر من مذهبه بعد أن ذاق عسيلة القات والشمّة الفاخرة والكدمة، وحاليًا يعيش عذابات الفاقة، فلاهو ظفر بالقات والشمّة ولا هو ظفر بسلامة المذهب. وهكذا ضاقت اليمن عليّ -وعلى كل يمني- بما رحبت، ولم أجد أرضًا فسيحةً آوي إليها إلا مأرب، التاريخ والتعايش والتراث والزراعة والأرض الطيبة والإنسان المؤمن والحضاري، إلا أنّ غلاء المعيشة فيها يُشبه دبي أو أبو ظبي أو عواصم أوروبا! مع فارق يسير في الخدمات المتدنية والكهرباء المجانية والبنزين المخفض والتعليم المجاني والمساجد الحيّة ودور العلم وحِلق المدارسات العلمية، ونسائم الحرية، وزاد من حجم المعاناة والغلاء عدم توفر المرتبات وسبل العمل والانتاج، ففي الصباح الباكر تجد سوق العمالة مكتظًا بالمئات من العمالة إن لم يكن بالآلاف، وويل ٌ لك ثم ويلٌ لك أن تنزل لتأخذ عاملاً، لأنه سيهبّ إليك المئات، وتحتاج إلى فرقة إنقاذ "كوماندز". أثناء إقامتي المباركة في "قصور" الجفينة، وللعلم أنّ هذه القصور –إن صح التعبير- عبارة عن بيوتٍ عشوائيةٍ جدًا من الطوب والطين أو الأسمنت والأسقف الخشبية، إلا أنها آية في الروعة والجمال، ومن يمتلك منها بعض الحجرات كأنه يمتلك قصرًا فخمًا، محلّىً ومصبوغًا بالذهب عيار 24، بل أكثر، وقد كنّا بعد الظهيرة نأوي إلى هذه المساكن "الفاخرة" بعد العناء والتعب، فنشعر براحة وسعادة ونَعمةٍ وفرح لا يوصف، فكم من المشردين لا يجدون هذه القصور، وإنما تأويهم خيام متهالكة ويتعرضون للنزوح من حين لآخر، أو تغرق خيامهم في مواسم الأمطار أو تتطاير في مواسم الغُبرة، وتترك قاطنيها نهبةً للرياح العاتية والبرد الشديد والمجاعة والتشرد. في اليوم التالي يممت وجهي نحو مديرية الجوازات والهجرة، باكرًا، وولجْنا من باب ضيق إلى ساح المكاتب المزدحمة بالمراجعين، ومن الطرائف التي شاهدتها حين وصولي، أنّ رجلاً من شدة الجريْ لإنجاز إجراءاته كان يمشي حافي القدمين، تمامًا، برِجْلَين يكسوهما التراب والغبار، إلى فخذيه، وقد رفع إزاره إلى صدره والعَرق يتصبب منه، وعيناه زائغتان محمرّتان، وكأنه يخوض حربًا ضروسًا، أوكأنه في ساحة غزوة الخندق!. رأيتُ حينها أمةً من الناس يجلسون في باحة التصوير الإلكتروني على جدارٍ مرتفع، أُعدّ خصيصًا فيما يبدو للراحة والاستجمام وتداول أطراف الحديث، والونسة، وهدوء الأعصاب والبال، فقلتُ في نفسي ما الفرق بين حكومة مأرب وحكومة صنعاء؟، تشابهت قلوبهم!!. زاد من المحنة أنّ معظم الموظفين في مكاتب التصوير لم يكن أحدٌ منهم متواجدًا في مكتبه، وقد ركب الناس بعضهم بعضًا.!. وما هي إلا دقائق حتى تغير المشهد رأسًا على عقب، ودخل ضابط مناوب في تلك الساحة يدعى الفندم إبراهيم فصاح بأعلى صوته الجميع يجلس، الجميع يجلس، وحضر الموظفون، ومع محاولاته الفردية أن يجلّس الناس على مقاعد قليلة بجوار تلك المكاتب، ولكن دون جدوى، فخرج مسرعًا وجاء بعدد من عسكر الصاعقة، وبعملية فدائية عسكرية تم إجلاس تلك الأمة من المراجعين، ولكن ثمة بطئ شديد في مكاتب التصوير، والكل يرميك على آخر، حتى وصلت معاملتي إلى يد الفندم إبراهيم نفسه، فصاح يا فلان أنجز معاملة الدكتور، وفعلاً تم إنجاز معاملتي، مع الاعتذار عن التأخير، وصعدتُ إلى مدير إدارة الجوازات الذي استقبلني بوجه بشوش وقلب سليم وكلمات آسرة، ووجّه مشكورًا بإنجاز معاملتي "مستعجل" كوني أستاذاً جامعيًا. ثم في اليوم التالي كنت على موعد مع القَدر ثانيةً، فقد جئت متأخرًا قبيل الظهر، إلى إدارة الجوازات، لاستلام الوثيقة، فرآني أحد العسكر وقال المدير يريدك الآن الآن، الآن، فقلت اللهم سلّم سلّم، وتبين لي أنّ سعادة مدير الجوازات يريد أن يطمئن أمنيًا على بعض بياناتي المدخلة كرقم الهاتف، وكوني يمنيًا، ولست خليجيًا، أو أفريقيًا، أو تركيًا، من أبوين يمنيين أصيلين، وكانت لحظاتٍ مباركةً وفرصة ثمينة للُقيا سعادة مدير الجوازات الذي غسل قلبي بكلماته الصادقة وثنائه وتوقيره للعلم. وفي يوم الجمعة الموافق 23/9/2022م، كنت معزومًا لدى أستاذي القدير/ بكير يحي عرج القديمي، فقد سبق الجميع بالحجز منذ أيام، وقبل وصولنا مأرب، وحضرنا خطبة الجمعة بجوار منزله العامر، وكان الخطيب رائعا جدًا ومتألقاً في خطبته، تحدث في خطبته الطويلة مرتجلًا، عن قوله تعالى : (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) ومع طول الخطبة إلا أنها مرّت كدقائق سريعة، فالخطيب دكتور متمرس وخطيب مفوه، ارتجل خطبته ببراعة، علمتُ فيما بعد أنه عميد كلية الجوف، واسمه فلان الخدري، وتناول في خطبته بعض آصرنا الفكرية والاجتماعية وأغلالنا الثقافية، وكيف للدعاة والمريدين والعامة التخلص من هذه الآصار الإدارية والثقافية، للإنطلاق نحو الله والدار الآخرة، وعرّج مشكورًا على إصْر شجرة القات الملعونة. تناولنا مع الخطيب وجبةً فقهيةً ودعويةً لا توصف، وبعد الصلاة لقيتُ جمعًا من الأصدقاء والأحباب في صفاءٍ وإخاء، وإذا بي أرى عسكرًا ومسلحين، وإذا هو أستاذنا القدير مدير الجوازات في المسجد، يسلّم عليّ ويحييني ويدعوني للغداء معه، فاعتذرتُ لكوني معزومًا، كما سلف، وقَبِل مشكورًا العذر. في يوم الإثنين 26 من سبتمبر 2022م، خرجنا من الجفينة قرابة الساعة 5.30، فجرًا، حيث كان في استقبالنا مجموعة من الحرس على البوابة، كعادتهم، وهم أشبه بالعفاريت، فحاولت إهداء أحدهم قليلًا من الابتسامة وقليلًا من الزبيب، فقال لي "أنا بيْن أجول لك هاتْ البطاقة" أي سلّم بطاقتك قبل أن يلحق بك شر ٌ أو أذى، وهذه لهجة جديدةٌ عليّ غير معروفة من قبلُ في القاموس العسكري اليمني، فغالبًا ما يتم قبول الهدية بل تَسوّلْ الهدية، ومما يثلج الصدر ويسر الخاطر أنّ كثيرًا ممن قابلناهم كحراسات أمنية في شوارع مأرب لا يتعاطون القات، فثمة روح وطنية جديدة لمسناها، تبشر بميلاد عهدٍ جديد للجمهورية اليمنية، وربما أخطأتْ عيني النظر والتقدير كوني لست عضوا في منتدى المخزنين، مطلقًا، لكني أرجح أنّ ثمة أمة من العسكر والمثقفين لا يتعاطون القات، وشبابًا وجيلًا جديدًا تمت صناعتهم للفداء والتضحية، تحررت نفوسهم من القات والهوى والمزاج الفاسد، على نحو ما سبق ذكره في بوابة الجفينة. بحثتُ –يا رعاكم الله- في صبيحة الإثنين 26 سبتمبر عن عبوة بنزين مخفض، لتغذية سيارتي، ووقفت في أكثر من محطة للبنزين الحكومي، دون جدوى، ويا للعجب ويا للهول، لتلك الطوابير الكيلومترية من السيارات، فيما لو حفر أحدهم بأطراف أصابعه لوجد النفط، فآبار النفط تحيط بكل مأرب، ولا تدري لماذا كل هذه الأزمة وسرقة أوقات آلاف الناس، بالليالي والأيام، وأين صلعة رشاد العليمي اللامعة لا تتدخل، بالطبع ليس لرفع سعر البنزين، بل لتوفيره، لكن الله لا يصلح عمل المفسدين. في الأثناء رأيت امرأةً ستينيّةًّ ظللتُ أرمقها عن قرب حتى غابت عنا بعيدًا، بسبب ما تحمله على رأسها من جركل أو إناء سعة حوالي 20 لترًا من الماء، من بئر ارتوازية، وظلّت تخترق هذا الطابور، مرارًا، وقد تسمّر هذا الجركل على رأسها وهي تمشي بسلام، ثم تغيب، وتغدو وتروح، وهممت أنْ أعينها بحمل هذا "الجركل"، لولا أني خشيت أن أَعجز عن حمله، وأكون مسخرة وأضحوكة لكل من في الطابور وهم بالمئات، وذهب عقلي مباشرةً إلى الدوحة فالمرأة القطرية في الدوحة غالبًا ما تجدها تقود لاندكروزر لكزسس، موديل 2023م وبسلام، ولا أدري ما الفرق بين البلدين، رغم أنّ اليمن أغنى من قطر بسواحلها وثرواتها ومعادنها وذهَبها وإنسانها، لكنها أفقر دولة في العالم بل في التاريخ بسبب حكامها المفسدين والفشلة والعملاء والخونة. (منفذ الوديعة أنموذجًا). لا يفوتني أن أدوّن هنا مشاهداتي عن المساجد فهي في واقع الحال مصانع الأمم والحضارات، فثمة روعة في التعايش بين الدعاة، وقد كنتُ كثيرًا ما أصلي في مسجد السنة، وحضرتُ بعض درس في المسجد غاية في الروعة، وعرّج الشيخ وفقه الله عن ضوابط الإمامة عند أهل السنة عند تفسير الآية (إني جاعلك للناس إماما)، ولي أرضية بجوار مسجد فضيلة الشيخ / محمد صلاح، كنت أزورها قصدًا وأزوره في مسجده تبعًا، وما أروع زياراته، فالدروس العلمية في المسجد لا تنقطع، وحضرتُ له درسًا أصوليًا، عن الحقيقة والمجاز، من أروع الدروس وأنفعها. تحسست عن مشاهير الدعاة في مأرب وعلمتُ أسماء بعض الأعلام المشتهرة، ووددت أن أذكر أسماءهم لولا الظروف الأمنية، ووددت أن يطول بي المقام لزيارتهم والإفادة منهم، لولا انشغالي بأرضية لي، والتي وجدتُ بعض الناس وقد حفر فيها وكاد أن يبني عليها، ثم تبين للجميع أنّ ثمة خطأ في المسح والترسيم، ولله الحمد، وتمت التسوية وديًا وبسلام وإخاء. زرتُ المحكمة في مأرب ومن الطريف أنّني وجدت بعض القضاة فيها هم زملاء دراسة بباجل، وتغيرت ملامح وجوههم، لكن قلوبنا تعارفت، بعد فراق لنحو 30 عامًا، وقد أنجزت وثيقتي وانقلبت إلى الجفينة مسرورًا، بعد رؤية المحكمة المأربية وهي في غاية من الروعة والتنظيم، فيما ظهر لي من خلال زيارتي الخاطفة. أنهيتُ سائر أعمالي وحان موعد عودتي إلى بلاد المهجر، ووصلتُ منطقة صافر، وإذا بإشارة البنزين تصرخ وبشدة، فقد شارف البنزين على النفاد، وسألنا النقاط العسكرية فقالوا ليس أمامك إلا محطة تبعد 70 – 100 كم، أو ستجد بعض المحطات 20 لترًا بسعر 26 -30 ألفًا. كان برفقتي أثيوبيان، أخذتهما للأنس والرفقة والصحبة والتسميع، ولعلّ هذا كان سببًا أنْ وجدت محطة بنزين تقف راقصةً أمامنا على استحياء، بعد حوالي 20 -30 كم من صافر، على قارعة الطريق، تنادينا وبشوق ولهفة، ولا يوجد فيها إلا نحو سيارتين أو ثلاثا، فقط لا غير، فسألنا موظفيها عن جرعة بنزين لسيارتنا، فقالوا جنّب فبعد عشر دقائق ستفتح المحطة، وفعلا تم تعبئة خزان سيارتي بسعر مخفض (20 لتر ب 3500 ريال، لا غير) . من الطريف أننا وجدنا في الأثناء مسجدًا صغيرًا في المحطة وبرْكة ماء، وسبقاني الأثيوبيان للصلاة وجئت متأخرًا إلى بركة الماء، وحاولت أن أرسل الدلو إلى الماء، وكلما أرسلته ورفعته خرج خالي الوفاض، مرات عديدة، ورآني أحد هذين الأثيوبين، فجاء وأخذ الدلو مني ورمى به على فِيْه، ورفعه لمرة واحدة وإذا هو ممتلئ ماءً، وبحمد الله صلينا الظهر والعصر جمعًا وقصرا، وسلكنا تلكم الطريق العجيبة نحو العبر، وفي الأثناء وجدنا باصًا صغيرًا وقد سلك طريقًا ترابية بعيدة، وقد غاصت قدماه في الرمل إلى صدره، وصاحب الباص ظالمٌ لنفسه، فالطريق من الواضح أنها خاصة بسيارات الدبل، وليس للباصات الصغيرة والمتهالكة، وكانت فرصة ذهبية للأثيوبيين، فقد نزلا وحفرا للباص، وجاء آخر بسيارة قديمة جدا، وسحب الباص، حتى أخرجه من تلك الرملة العظيمة. ثم عدتُ بحمد الله بسلام إلى شرورة بعد أن قضيت ليلة في المنفذ، لإنجاز الإجراءات والفحص، والله الموفق والمستعان. ختامًا لا يفوتني أن أتوجه لله تعالى بالشكر والحمد والثناء لإنجاز هذه المذكرات المتواضعة، بحسب ما يجود به الوضع والحال والزمان، ثم أتوجه بالشكر والتقدير لكل أحبتي القراء والأكاديميين الذين راسلوني على الخاص شكرًا وثناءً ودعاءً، مشكورين مأجورين، وفي مقدمتهم أ.د/ أحمد الدغشي حفظه الله ورعاه، ولعلّي أجد فرصةً لكتابة تعقيب فقهي على بعض ما ورد في هذه المذكرات، والردود على الأسئلة، إن وجدتْ، على أمل أن ييسر الله الأسباب لكتابة مذكراتي كاملة، لحياتي العلمية والعملية، كما أعتذر سلفًا لعدم ذكر أسماء بعض الأعلام الذين وجدنا منهم غاية الكرم والعون، لأنه يلزم استئذانهم، وبالله تعالى التوفيق والسداد. والله تعالى من وراء القصد ،،،