ربما الثمن الذي دفع من الأرواح لقيام الجمهورية اليمنية من تحت ظل الإمامة الكهنوتية هو الأكثر حجمًا وعددًا، بعد الجمهورية الجزائرية، في التاريخ العربي الحديث، فحتى يخرج اليمن من العصور الوسطى، كان لا بد من دفع ثمن باهظ، وحتى يصل إلى أن يصبح جمهورية حقيقية يتساوى فيها المواطنون، يحتاج إلى سقيا من الدم أكثر.
في المرة الأولى كان الدم مصريًا، هذه المرة أصبح الدم من أبناء الإمارات والسعودية والبحرين وأيضًا الدم اليمني. وقد يكون الطريق إلى جمهورية حقيقية معبدًا بكثير من تلك الدماء، إلا أن القرار قد اتخذ، أن يتحول اليمن من إقطاعية جمهورية إلى جمهورية حقيقية حرة وعربية، وأن ينفذ من مصيدة التفريس.
في هذا الصراع الأخير يكتشف اليمنيون، أو على الأقل نخبتهم، أهمية الحفاظ على «الدولة الوطنية»، كما اكتشف الكويتيون تلك الأهمية في ما بعد الغزو العراقي في أغسطس (آب) 1990! كان البعض يعتقد بمجموعة أوهام، أن هناك كيانًا مطلوبًا فوق الدولة الوطنية، ولكن تبين للكويتيين بعد الغزو أن ذلك وهم، كما يتبين الآن لليمنيين، وما عاصفة الحزم إلا وسيلة لترسيخ فكرة الدولة الوطنية اليمنية بمعناها الحديث، وإن كان الكلام المجمل يبدو للبعض غامضًا، فإني أحيل القارئ على حلقة نقاشية مهمة نشرت في العدد الأخير من مجلة «المستقبل العربي» (سبتمبر/ أيلول 2015 صفحة 91 وما بعدها) وكانت بعنوان «اليمن إلى أين؟»، فيها طلب من المناضل الناصري اليمني المعروف عبد الملك المخلافي أن يكتب مطالعة حول الأحداث الأخيرة في اليمن، من أجل مناقشتها، فكانت مطالعة متوازنة، ذهب فيها إلى أن الانقلاب الحوثي جاء بالتعاون مع مجموعة علي عبد الله صالح، بعد أن نضجت (نظريًا) أطر دولة حديثة لليمنيين من خلال وثائق نتائج الحوار الوطني ومسودة الدستور الحديث.. لم يكن علي صالح مستعدًا لقبول ذلك التحول الحضاري، أراد أن يعود إلى الحكم مستعينًا بالحوثيين، وكانت لهم رغبة أن يستولوا على اليمن من أجل تجييره إلى طرف خارجي. هذا ما يقاومه اليمنيون، فهناك حرب داخلية وحرب خارجية، حسب تعبير المخلافي.
المطالعة كانت سردًا للأحداث التي شهدها عبد الملك، وكان مشتركًا في تفاصيلها الصغيرة، حتى ما بعد اندلاع الحرب في مارس (آذار) الماضي! شهد تلك الحلقة النقاشية أحد عشر شخصًا من المهتمين والمثقفين العرب، دعاهم مركز الوحدة العربية لمناقشة طروحات السيد عبد الملك، ربما جميع الحاضرين ممن يوصفون بالمناصرين للعروبة والفكر الوحدوي على هلامية المفهوم! المفاجأة للبعض، وليست لي، أن السيد عبد الملك لم يشفع له كونه مناضلاً قديمًا، ورجلاً لا شبهات حول مواقفه القومية، دخل تقريبًا عش زنابير، تقرصه من كل جانب!! لماذا لم تتعرض لهجوم التحالف بقيادة السعودية على اليمن؟ ولماذا تقف ضد الحوثيين؟! وكيف تناصر الرئيس هادي؟!
وهكذا واصلت المجموعة النقاش حتى كاد يُتهم الرجل بـ«الخيانة العظمى»!! ليس من مهمتي أن أشير إلى الأسماء، لأنها منشورة في العدد المشار إليه، ولكن أردت أن أشير إلى بؤس التفكير الذي يريد أن يقنع نفسه بأنه عروبي، حتى لو سلمت الدولة الوطنية العربية إلى الشيطان، وحتى يكون المتابع منصفًا، فإن الفكر العروبي المتعصب هذا يماثله بالضبط الفكر «الأممي المتدثر بالإسلام» و«الفكر الطائفي الملتحف بالإمامة»، كل تلك التوجهات تحُط من قيمة وأهمية الدولة الوطنية، في سيبل إعلاء وهم غامض وغير عقلاني للدولة (الموحدة/ الأمة) التي هي في عقول البعض وليست واقعًا على الأرض.
واحدة من مشكلات الفكر السياسي العربي العميقة التي تواجهنا في هذه الفترة، رفع أولوية ما دون الدولة، أو رفع أولوية ما فوق الدولة، عن الدولة الوطنية، وهو ما أنتج كل التشرذم الذي نواجه. في أثناء الغزو العراقي للكويت دخلت في مناقشة إذاعية في مكانين مختلفين مع شخصية أردنية وشخصية ليبية، الاثنان كانا علنًا يدافعان عن «بسمارك العرب» صدام حسين!! الذي سوف يوحد هذا الكيان العربي «المفكك».
وبعيدًا عن الهواء، وهنا يظهر التناقض، قال لي الأردني هل تعرف المثلث بين العراق والأردن؟ هو صحراء لا ماء فيها، لو تعدى العراق على شبر هناك لوقفت في وجهه! كما قال لي الليبي في مكان آخر، وكان معارضًا لنظام معمر القذافي، لو أطلقت النار من الحدود المجاورة لليبيا على ليبيا لقمت بالدفاع عنها، وحتى عن النظام! فوق كل ذلك نسي هؤلاء وما زالوا أن بعث صدام وبعث الأسد حزب (قومي) بينهما أكثر ما من بين الشيطان وزوجه من خلاف!! ما أريد أن أشير إليه تلك الشخصية المزدوجة لبعض المثقفين العرب الهائمين في خيال غير حقيقي، حطوا من قدر الدولة الوطنية سنين طويلة وما زال بعضهم يفعل، حتى هانت وأصبحت الآن مطية للتقسيم أو التقزيم.
إلى هذه الدرجة فارق التفكير الموضوعي بعضًا من المثقفين العرب والسياسيين، حتى عاد تسويغ التعامل مع الآخر غير العربي، وتمكينه من مقدرات الدولة الوطنية والمبني على الطائفة والعرق والمنطقة عمل مقبول! وتقديم ولاءات خارج الدولة العربية الوطنية.. فهمي لمطالعة المخلافي أنه يرغب في الحفاظ على الدولة الوطنية اليمنية وتطويرها، دون وضعها في تناقض مع الفكرة القومية، وأن الحرب القائمة هي ليست أطماعًا من أحد في اليمن، فاليمن بلد فقير يحتاج إلى من يأخذ بيد شعبه، لا من يأخذ منه، إنما هي حرب لوقف بيعه إلى دولة إقليمية تحت فكرة قديمة لا تقبلها مجمل شرائح الشعب اليمني، وهي عودة «الإمامة» التي تعيد اليمن إلى زمن إقطاعي وتزيد من تخلفه تخلفًا، هي حرب للدفاع عن عروبة واستقلال اليمن وتحضره.
إذن ماذا حدث ويحدث في اليمن؟ الذي حدث باختصار أن حكمًا لثلاث وثلاثين سنة، نما فيها الاحتكار السياسي متزامنًا مع فساد واسع، واحتكرت الدولة من خلال القيادات العسكرية في يد قلة، حتى غدا معظم كبار الضباط في الجيش اليمني «من قرية واحدة»، فالجمهورية اليمنية الثالثة كانت تدار من فئة قليلة ومن رجل يحمل أحقادًا صغيرة، ويخطط لتوريث الحكم! وجاءت تحركات الشباب اليمني التي تزامنت مع الربيع العربي، لتشرك قطاعات محرومة في السابق من المشاركة في العمل العام، وهكذا التأم مؤتمر الحوار الوطني، الذي شاركت فيه قوى ومناطق لم تكن على شبكة رادار النظام السابق، وفي إطار تفاؤل واسع وكثير من «حسن النيات»، اعتقد البعض أن القبضة العسكرية/ المناطقية قد خفت عن اليمن، في الوقت الذي تخوفت عناصر تلك القبضة من فقد نفوذها، فكان يجري حوار من جانب، وتجرى مؤامرة انقلابية من جانب آخر، إلى درجة أن تزامن انتهاء الحوار وكتابة مسودة الدستور وتسليمه، التي تحمل عبقرية الفكر الجمعي اليمني، تم اختطاف المسودة مع حاملها، أحمد بن مبارك، من ميليشيات الحوثي، وهكذا بين سبتمبر 2014 ويناير (كانون الثاني) 2015 تم استيلاء الحوثي على المعسكرات التي سلمت للحوثي من خلال ضباطها بتعليمات من صالح واندفع التحالف ليستولي على اليمن عنوة، كان الرهان الصالحي أن تتمكن الميليشيات من الدولة، ويعود هو إلى الحكم أو من يختاره من أقربائه، مع تعاون وثيق يرتقي إلى الإلحاق بدولة تشتهي الحلول في العواصم العربية، إيران!
طبعا لو سار ذلك السيناريو لربما حصل سباق بين الحوثي وصالح على أيهما يرضي إيران أكثر، وهكذا يضيع اليمن العربي ويدور في فلك طهران!! رؤية المخلافي الوطنية تعضدها رؤية النخب الواعية في اليمن، منها أن الحرب الدائرة التي اختلط فيها الدم اليمني مع دم أبناء الخليج تؤسس لجهورية رابعة تكون فيها المكونات العربية اليمنية هي الأصل، فاليمن أصل العرب وسيظل كذلك. آخر الكلام: ليس الجوع والحرب ما يهدد اليمن، ولكن يهددها العطش أيضًا!
نقلا عن "الشرق الاوسط"