رحلة النجوم اليمنية
بقلم/ فيصل الصامت
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 28 يوماً
الخميس 30 ديسمبر-كانون الأول 2010 08:02 م

مما لا شك فيه أن للفن رسالة، ولكن قد تكون الرسالة هادفة أو هابطة، لبناء أو هدم قيم المجتمع النبيلة. و قد اختلفت وجهات النظر حول فوز "النجم اليمني" في مسابقة "نجم الخليج" وتباينت الأراء باعتباره إنجازاً ونصراً تأريخياً ، أو انحطاطاً أخلاقياً يُضاف الى قائمة المصائب التي بُليت به الأمة والشعوب العربية، أو اعتبار أن الفرح شابَهُ مبالغة كبيرة على المستويين الشعبي و الرسمي، ربما لأننا لا نملك أي إنجاز آخر لنفخر به في الوقت الراهن، أو اعتبار الفوز تعويضاً مباشراً لفشل منتخبنا اليمني في خليجي عشرين، و واحدة بواحدة !

أريد الحديث هنا عن نجومية من نوع آخر. يتكبد "النجوم" عناء رحلة شاقة وصعبة وطويلة للوصول الى النهاية. يواجهون ويتحدون المستحيل. كأي رحلة، يبدأون وهم كُثر ولكن لا يصل الا القليل ، والقليل جداً. ليس لأن الشروط لا تنطبق عليهم، وليس لأن الفائزين هم الأفضل، ولكن لأن الرحلة شاقة ، تتخللها "غربلة" تُبعد الكثير قسراً وإن كانوا الأجدر بالفوز، ويصمد نفرٌ قليل هم الأوفر حظاً، ولكنهم حين يصلون لا يأبه لنجوميتهم أحد ولا يجدون في أغلب الأحيان تشجيعاً ولا تقديراً مناسباً يليق بهم.

أظنكم عرفتمونهم، فلا يكاد يخلو حي أو قرية في بلدنا الحبيب من اولئك النجوم أو مَن كان يفترض بهم أن يصبحوا نجوماً. إنهم الثروة الحقيقة لليمن. الثروة التي لا ينضب معينُها اذا ما نضبت ثرواتنا المادية. إنهم باختصار اولئك المتميزون المتفوقون علمياً من أبناء هذا البلد، الذين يكافحون لتحصيل العلم، ويجاهدون في سبيل التفوق رغم الظروف القاسية التي يمر بها أكثرهم.

ما شدني للكتابة عن هؤلاء هو التكاتف والتعاون والتشجيع المنقطع النظير "للنجم اليمني" الصاعد، فمرت بذاكرتي أسماء كثيرة حُرمت من أبسط الحقوق من الجهات الرسمية، وأقل درجات التعاون من المجتمع. هناك طلاب متفوقون ترميهم الظروف في عمر مبكر للعمل. ينسحبون بهدوء من الصفوف الأمامية في المدارس، يتنازلون من غير رضى عن أعلى الدرجات، يُجبرون على العمل لوفاة أو مرض من يعولهم، يترك أكثرهم التعليم نهائيا ويكتفي بما ناله من شهادات "إعدادية" أو "ثانوية" ويكتفي بوظيفة العامل البسيط فيُحرم وأهله و وطنه من خير كثير كان قادراً على الإتيان به.

يستمر المشاركون في هذه الرحلة السعي نحو التفوق. يحصد الكثير منهم أعلى الدرجات في المرحلة الثانوية. لتبدأ المعاناة، وتبدأ رحلة البحث عن التخصص، عن المستقبل. و يجدون "المنح" أو الدراسة في كليات علمية تتناسب و مستواهم كحلم لا يجوز حتى مجرد التفكير فيه. لا أحد غير أهلهم المعدمين يلتفت اليهم. وبأسف بالغ يُجبر الكثير منهم على البحث عن التخصصات التي لا تكلف سفراً وسكناً ومعيشة وكتباً ومراجع وملازم وغيرها. "يقبرون" طموحهم في اقرب كلية لا تمت إليها رغباتهم وقدراتهم بصلة.

وبعد هذه "الغربلة" يستمر البعض في تفوقه، ويتقهقر الكثير. وتنتهي الدراسة الجامعية، ويظهر فيها عباقرة وأذكياء ومتميزون قدامى وجدد، يبحث أكثرهم عن فرص عمل. وتبقى عيون البقية شاخصة نحو التأهيل والدراسات العليا ، ولكن من أين لهم بها؟ وكيف السبيل اليها؟ رغم تميزهم وتفوقهم سواء في جامعات يمنية أو غيرها. يتنازل الكثير منهم عن هذا الطموح وينشغلون بتوفير "لقمة العيش" ، بينما يكافح البقية الباقية على عتبات وزارة التعليم العالي وسفارات الدول المانحة وغيرها من المنظمات و الجهات التي قد تؤهل أحدهم ليكمل تعليمه. وحيث أن فنون "التطفيش" كثيرة ومتنوعة وكافية لسد كل دوافع الأمل والطموح، الا أن من يحلم بالنجاح والتفوق لا بد له أن يتسلح بالصبر الجميل، وما أمرّه!

للاسف الشديد، ينظر بعض المسؤولين عن الإبتعاث والتعليم العالي في بلادنا إلى بحث المتفوقين عن منح دراسية باعتباره نوع من الطمع والجشع غير المقبول. فهؤلاء "الطامعون" يبحثون عن رواتب شهرية بالدولار! وسياحة في بلدان العالم!! مسؤولينا وللاسف لا يعلمون ماذا ينتظر اولئك الطلاب من تعب ونصب وسهر وهم وقلق وأرق في سبيل تحصيل الشهادات العليا بتفوق وامتياز. ولا يعلموا -ربما- عن شحة هذه المنحة التي لاتسمن ولاتغني من جوع والتي "بالكاد" تُعيّش الطلاب حد الكفاف. لا يعلم هؤلاء ما يحتاج وكم يحتاج الوطن الى متخصصين ومؤهلين بأعلى الشهادات.

صدقوني، الأمر مهم للغاية. هؤلاء من يُرجى منهم بناء ونهضة اليمن الحديث. إلى متى سنظل نرسل طلابنا الى الخارج للدراسات الجامعية أو حتى للماجستير والدكتوراه أيضاً؟ لا بد أن نشجع المتفوقين ونؤهل الكم المناسب منهم التأهيل اللازم حتى تكتفي جامعاتنا ذاتياً، كما اكتفينا ذات يوم بالمدرسين اليمنيين.

على "سيرة" التشجيع، فإن من أهم اهداف الخطة العشرية للحكومة الماليزية (حتى عام 2020) 10 th Malaysian Plan تحسين جودة أعضاء هيئات التدريس الأكاديمية وذلك بزيادة نسبة حملة الدكتوراه في الجامعات البحثية بمعدل 75%، وبنسبة 60% في الجامعات العامة. أيضا لديهم برنامج خاص من وزارة التعليم العالي الماليزية MyBrain15  ضمن الخطة الوطنية الاستراتيجية للتعليم العالي لزيادة عدد حملة شهادة الدكتوراه الى  18,000 خريجاً بحدود 2015، والى 60,000 بعد ذلك. (انظر الموقع الرسمي لمكتب رئيس الوزراء الماليزي ، وموقع وزارة التعليم العالي في الهوامش*). لذا تراهم يبحثون ويشجعون من لديه أو ليس لديه الرغبة في الدراسة!

في اليمن، جميعنا يعلم كم على الطالب المتفوق أن يدفع ويبذل في سبيل الحصول على منحة، ولا مجال للمقارنة مع ماليزيا. و على هذه الحالة تستمر الرحلة الى أن يتخرج ويتفوق بعض الطلاب من درجة الماجستير بامتياز. وتبدأ معاناتهم بالبحث عن "إستمرارية للدراسة" من جديد، رغم أنهم في المرحلة الأخيرة، و يحتاجون فقط للدعم الأخير الذي يستحقونه. فيصمد بعض هؤلاء فقط، ويستسلم الاخرون.

ويستمر اولئك المكافحون، حتى ينالوا أعلى الدرجات العلمية والأكاديمية، حيث تنتهي القلة القليلة الباقية من دراسة الدكتوراه. ثم ماذا بعد؟ الى أين يعود هؤلاء؟ من يستوعبهم؟ من يستفيد من علمهم وشهاداتهم؟ صحيح أن موفدي الجامعات والكليات الأخرى وهم أقل عدداً يعودون ليمارسوا عملهم هناك، ولكن تتقاذف أمواج البطالة من تبقى منهم وهم الأكثر. فيعملون "بأجرة الساعات" في جامعات خاصة! ثم بدون أي تردد يرسل بعضهم سيرهم الذاتية المتميزة لجامعات خارج اليمن ، ليسقطوا من قائمة النجوم قسراً. أرأيتم أعجب من أن نتخلى عن أغلى ما نملك و مجاناً؟ أن نتخلى عن النجوم الحقيقين الذين يبنى عليهم أمآل عريضة لنهضة اليمن وتنميته في كافة المجالات!

خلاصة ما نرجوه أن يتم تشجيع المتفوقين منذ المرحلة الأولى في المدارس وما بعدها. إن وزارة التعليم العالي عليها المسؤولية الأكبر في تأهيل هؤلاء المتفوقين، وذلك بتذليل الكثير من الصعاب وسن قوانين واضحة وصريحة تضمن حقهم في التأهيل بدون حاجة الى تلك الرحلة الشاقة المضنية التي يتساقط خلالها الكثيرون. وعلى المجتمع أيضاً أن يتعاون ويتكاتف معهم كما أثبت أنه قادر على ذلك مع غيرهم. على رجال الأعمال والجمعيات الخيرية مسؤولية دعم المتفوقين وطلاب الأسر الفقيرة ايضاً وليس الإكتفاء بتوفير بعض الإحتياجات الأساسية فقط. لأن سمكة واحدة لا تكفي، فلو أعانوهم على تعلم الصيد كما يشير المثل المعروف لكان أفضل. وهنا يجدر بنا أن نقف تحية إكبار وإجلال لكثير من رجال أعمال محافظتي حضرموت وتعز الذين لهم السبق في منح الكثير من المتفوقين والمتميزين فرص التعليم داخليا كان أو خارجياً.

ما نرجوه أن يكون هناك صندوق خيري لرجال الأعمال والخيرين في كل مدينة من مدن بلدنا الحبيب لدعم اولئك النجوم جنباً الى جنب مع الدعم الحكومي المطلوب لهم. وقد كان لدينا في ماليزيا مبادرة رائعة لتأسيس صندوق دعم و رعاية لطلاب و طالبات اليمن المتفوقين دراسياً في الجامعات الحكومية الماليزية و الخاصة والذي دشن في الـ 28 مايو 2009م بميزانية تقدر بمليون ومائتين ألف رينجت ماليزي (ما يعادل 70 مليون ريال يمني في 2009) مقسمة على ثلاثة أعوام حتى 2011م، حيث مُولت ميزانية الصندوق من تبرعات سخية من رجال أعمال و محبين لعمل الخير فضلوا عدم ذكر أسمائهم بهدف تشجيع الطالبات و الطلاب اليمنيين الأوائل و المتفوقين دراسياً في جامعاتهم (انظر الهامش رقم 3). وتم بالفعل تكريم بعض الطلاب المتفوقين في 2009م، و للاسف الشديد لم يتم تكريم اي طالب بعد ذلك حتى الآن، ولا ندري ما السبب! وما زال الكثير من الطلاب يحدوهم الأمل بالتكريم وينتظرون دعوتهم لذلك في كل مناسبة وطنية!

ختاماً، أود أن أشد على يد كل نجمٍ يمني صاعد، وأوصيهم بالصبر لأن اليمن أغلى ويتطلب منا التضحية بكل ما نملك، ولهم في مَن قبلهم قدوة حسنة. فبرغم كل الظروف الصعبة، إلا أن طلابنا ما زالوا يحصدون أعلى الدرجات والتقديرات في معظم الجامعات التي يدرسون بها. فمثلا، في حفل التخرج بجامعة التكنولوجيا الماليزية (أكبر جامعة تقنية هندسية بحثية في ماليزيا) أواخر هذا العام أحتفل الطلاب اليمنيون بتخريج 17 طالباً من الدراسات العليا. حصل ثلاثة منهم على جائزة الإمتياز الأكاديمي، والتي تُمنح لأفضل طلاب الدراسات العليا في الجامعة، وحصل طال بان على الدرجة النهائية في الماجستير، وتخرج أكثرهم بتقدير إمتياز. هذا غيض من فيض، فقط !

( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) سورة الرعد. آية 17

الهوامش

الموقع الرسمي لمكتب رئيس الوزراء الماليزي: http://www.pmo.gov.my/?menu=newslist&news_id=3449&news_cat=13&page=1731&sort_year=2010&sort_month =

1.  موقع وزارة التعليم العالي الماليزية – برنامج MyBrain15

https://www.mohe.gov.my/MyBrain15 /

2.  خبر تأسيس الصندوق الخيري لدعم الطلاب المتفوقين في ماليزيا

http://www.almotamar.net/news/69990.htm