الثلاثون من نوفمبر والوجه الآخر للجلاء
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: 4 سنوات و 11 شهراً و 5 أيام
الأحد 01 ديسمبر-كانون الأول 2019 06:04 م


في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (القرن العشرين)، كانت الأمم المتحدة ومجلس الأمن قد ضغطت على الدول المستعمِرة (بكسر الميم) أن تصفي احتلالاتها وتخرج من الدول المحتلة وتعويض الشعوب التي رزحت تحت الاحتلال. وكان الاحتلال البريطاني آخر تلك الاحتلالات في منطقة الشرق الأوسط إذا استثنينا إسرائيل بطبيعة الحال.
هناك عامل آخر من عوامل رضوخ بريطانيا لتصفية الاحتلال لجنوب اليمن وهو أن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس جراء الضربات المقاومة التي أرهقتها في كثير من البلدان ومنها مصر والسودان واليمن الجنوبي على سبيل المثال كانت قد دخلت في أزمة مالية خانقة جراء الالتزامات المختلفة دولياً ومحلياً بما تفرضه الأعباء المالية على تمدد الجيوش في العالم والتي تكون أهم عامل من عوامل الضعف والانهيار كانهيار الجيش النازي الألماني جراء ذلك التمدد ومن قبله الجيش العثماني في المنطقة.
تلك الأزمة المالية كانت من أهم عوامل تراجع الاحتلال البريطاني خطوة إلى الخلف، صادف ذلك هوىً في نفس الولايات المتحدة الأمريكية القوة الفتية والمتمددة في تلك الفترة والتي لم تكن قد دخلت منطقة الشرق الأوسط إلا بقليل من التدخل عبر إسرائيل ككيان ديني ومشروع عالمي غربي لغرسه في المنطقة ورأس حربة المشروع الغربي الذي غرس ويتم تعهده وتنميته في الشرق الأوسط.
هذا الإغراء دفع بالولايات المتحدة الأمريكية لمفاوضة بريطانيا بأن تنقذها من أزمتها المالية لتدفع لها خمسة مليارات دولار في ذلك العهد كأعلى مبلغ عالمي يتم دفعه في تلك الفترة التي كانت أعلى مبالغها بمئات الملايين من الدولارات فقط مقابل بيعها نفوذها ومناطق سيطرتها في الشرق الأوسط ككل، وهكذا يتم بيع وشراء الأوطان بين القوى الكبرى ولا عزاء للكيانات الصغرى والضعيفة ولا البلدان المباعة.
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط وأخذت تتمدد وتتحكم بكل شاردة وواردة فيه، وانكفأت بريطانيا على ذاتها من تلك الفترة لتمر بمرحلة الشيخوخة والوهن.
تكشف بعض الوثائق البريطانية في الأرشيف البريطاني كما قال لي أحد المطلعين عليها أن بريطانيا كانت قد التزمت أمام المجتمع الدولي وتحديداً الأمم المتحدة والقوى الصاعدة الفتية حينها بأن تترك جنوب اليمن في أكتوبر عام 1969 وتم إلزامها بدفع تعويضات مالية لليمنيين بمئات الملايين من الدولارات جراء الاستعمار لقرون من الزمن واستنزاف ثرواته وقتل شعبه.
وكانت الأمم المتحدة قد اعترفت بشرعية نضال الشعب اليمني وحقه في نيل الاستقلال وتقرير المصير في 11 ديسمبر من عام 1964؛ أي بعد انطلاق ثورة أكتوبر بشهرين بعد اتخاذ بريطانيا سياسة الأرض المحروقة بحق الشعب الجنوبي، وعززته في اعتراف آخر في 1965 اعترفت الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب اليمن الجنوبي طبقاً لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مما دفع بريطانيا في أغسطس 1966 بالاعتراف بقرارات منظمة الأمم المتحدة لعامي 1963 و1965 الذي أكدت فيه حق شعب الجنوب اليمني المحتل في تقرير مصيره.
فكرت بريطانيا وقدرت جراء أزمتها المالية أنها ملزمة لا محالة بدفع هذه المبالغ فلعبت لعبة قذرة بما عرف عنها من حكمة السياسة الدولية وصارت مضرب المثل في ذلك بالمثل العالمي القائل: "السلاح الألماني والمقاتل العربي والسياسة الإنجليزية"..ففكرت أن تتهرب من هذه الأعباء والالتزامات المالية لليمنيين فأوحت إلى بعض عملائها كعلي عنتر ووغيره من الشخصيات أن يتبنوا فكرة تصعيد العمل المسلح وفعلاً في أبريل 1966 أسقط المهاجمون طائرتين عسكريتين بريطانيتين، فبدت العملية تصاعد ثوري من جهة الثوار لكن الدهاء البريطاني استغلها فرصة للتهرب من الالتزامات المالية وخرج من عدن في العام التالي 29 نوفمبر 1967.
خرجت بريطانيا متخففة من كل الأحمال ومتحللة من كل القيود والالتزامات، بينما خرجنا كيمنيين بالشعارات الفضفاضة والاحتفالات بالتحرر وسط فقر مدقع لم ينهض المتحررون بالواقع اليمني، بل على العكس تماماً؛ تدمرت الملاحة الدولية وتقزم ميناء عدن، وصار الثوار يصفي بعضهم بعضاً وأول من تم تصفيته الرئيس الثائر قحطان الشعبي، وصارت عدن بيئة طاردة لكل شيء بعد أن كانت مدينة تحتضن كل العالم وعرفت بمدينة التعايش العالمي.
اليوم دخلت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي والتزمت بكل أدبياته والتزاماته ولما شعرت أنها استعادت قوتها ونشاطها تعمل جاهدة إلى الانسحاب من الاتحاد بعد أن استردت عافيتها وباتت تحن للفترة الاستعمارية، وتكشف كل مجهوداتها وخططها من الخروج من الاتحاد عي العودة إلى لعب الاحتلال مرة أخرى، وبدأت تجرب أدواتها الجدد ومن جديد في جنوب اليمن مرة أخرى وفي الحديدة وعموم الشرق الأوسط والجزيرة العربية، وكثير من المراقبين والمحللين يعزون وقوفها القوي وراء عرقلة تحرير مدينة الحديدة، وأنها عادت لدعم الحوثيين من جديد كما دعمت مشاريع آبائهم وأجدادهم الأئمة من قبل، وهناك الكثير من العلاقات السرية والتنسيقات فيما بينهم البين، وعلى ما يبدو فإن بريطاني تريد أن تواجه التمدد الصيني في المنطقة وخاصة تطلعها إلى عدن ومينائها والموانئ القريبة منها، وهذا مؤشر خطير على اليمنيين أن تكون بلادهم ساحة تصفيات دولية جديدة.