القضاء ومكافحة الفساد.. نسمع جعجعةً ولا نرى طحيناً(1-2)
بقلم/ عبدالله الثلايا
نشر منذ: 15 سنة و شهرين و 6 أيام
الخميس 22 أكتوبر-تشرين الأول 2009 05:42 م

يجد المتابع مللاً عند مشاهدته المسلسلات التركية ذات الصبغة المحلية والمتمثلة في غزارة إنشاء أجهزة وقوانين متعددة لمكافحة الفساد وبدون الوصول الى حبكات درامية يصل فيها المشاهد الى ذروات متكررة في التفاعل والإثارة لدى المشاهد. فقد ثبت عملياً أن إُنشاء \"الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد\".

الى جانب شقيقاتها غير المنتجات \"النيابة العامة\" وجهاز \"الرقابة والمحاسبة\" وقوانينها ذات العلاقة المنوطة بمكافحة الفساد، وكل مثل تلك الإجراءات التي تم تسميتها \"بإصلاحات\" و\"شفافية\" لم تحقق تلك التفاعلات والإثارة المنشودة، بل انها خلقت شعوراً عاماً بأنها لم تنشأ إلا لتلبية رغبة خارجية أو لتعزيز التلاعب والتحكم بمسار أي قضية فساد قد تخرج عن السيطرة الحكومية.

بالإضافة الى ذلك فقد مثلت تلك الإجراءات \"عالة\"

وعبئاً اقتصادياً ثقيلاً على عاتق شعب مسحوق تحت نير الفقر. يبرهن كل ذلك استمرار مخالب الفساد في النمو والوحشية والامتداد الافقي والرأسي من يوم لآخر في اشارة لتأكيد الافتراض المُساق هنا. كما ان عدم وجود محاكمة \"يتيمة\" لرأس من رؤوس الفساد يمكنها أن تشفي غليل الغلابا وتبيض قليلاً من سجل الحكومة الأدهم هو أكبر رهان دائماً ما تكسبه عشرات الملايين من المواطنين في هذا المجال مستندين إلى إفتراضات وشواهد بعدم وجود \"نية\" سياسية عليا حقيقية يقصد لها المضي جدياً في هذا الطريق وكذا عدم وجود توجه لوضع القدوة الحسنة والكفؤة ذات الشخصية القوية على طاولة السلطة.

فالكثيرون من الناس لم يعدوا يستطيعون تسمية مسئولين من ذوي الثقة والشعبية على المستوى الشعبي ولعل آخرهم كان وزير الادارة المحلية السابق الذي اجتمع على شعبيته الكثيرون من الطبقات الشعبية والنخبة. وكان اختفاء هذه الفصيلة من البشر مرهون باختفاء العوامل التي تدفع باتجاه ظهورها وأهمها القوانين المفعلة. ليس هذا موضوعنا لكن حديث المدينة قد كثر عن عدم وجود نزهاء في أوساط هذا الشعب المليوني وتكالب العشرات من نقائضهم على كراسي السلطة وبهدف يظهر جلياً من خلال أداءهم المتواضع.

انحياز القضاء!

ورغم كل ذلك فلا يجدر إلا الاعتراف أن أكثر القرارات جرأةً وإخلاصاً هو تنازل فخامة رئيس الجمهورية عن رئاسة السلطة القضائية لقاضٍ مفعم بالشباب والحماس والضمير الحي مثل القاضي عصام السماوي. ورغم هذا ورغم إصرار رئيس السلطة القضائية الشاب على إيجاد قانون سلطة قضائية مستقلة، الا أنه لا يزال يغفل الصورة الكبيرة لرئيس السلطة التنفيذية التي تزين جدار صالة استقبال كبار الضيوف في مجلس القضاء الأعلى، ولعل ذلك كان نتيجة لعدم إدراك القاضي برمزية ذلك ولعله لا يجد مبرراً إلا أن \"كل الناس يفعلون ذلك\".

بالاضافة الى ذلك، فالقاضي لم يستطع الخلاص من اصرار رئيس السلطة التنفيذية حضور وتصدر مراسم القسم الرسمي لأعضاء مجلس القضاء الاعلى والمحكمة العليا ومسئولي القضاء الذين أضحوا يؤدون القسم لرئيس السلطة التنفيذية وهذا مخالف لاستقلالية القضاء. ورغم هذا أيضاً فالمتابع لأنشطة وقرارات الرجل عن قرب لا يملك الا أن يشهد ببياض كفه وصحيفته. إن واجب كل ناقد موضوعي ابراز حميد فعال النقباء من الناس أمثال هذه القامة العالية. وكان الله في عونه في حمل قبس نور وسط الظلام الحالك.

وبالرغم من رفض مجلس القضاء الأعلى المعلن اشراك كافة التيارات و النخب المتخصصة في وضع آراءهم لتطوير قانون السلطة القضائية وتعزيز استقلاليتها، إلا أنه توجد بوادر للتخلص من \"بعض\" النصوص القانونية في القانون المذكور والتي تكرس انحياز القضاء كمثل (لا الحصر) النص الذي يبطل انعقاد مجلس القضاء الأعلى بغياب وزير العدل (الذي يعتبر أساساً المسئول عن جهاز إداري يدعم القضاء ولا يتدخل في عملياته الفنية). وعملياً، على سبيل المثل، لا يمكن تفهم الأساس القانوني للدور الذي لعبه وأداره هذا الوزير في التدخل في قضية مقتل مدير عام مديرية دمنة خدير قبل أشهر والقبض على المتهم الأول فيها، كما إن عدم الفهم هذا انعكس بإطاره العام على مجلس البرلمان (المشرعون!) الذين أصروا على توجيه الخطاب والتعامل معه بالرغم أن كل ما يتصل بتلك القضية منوط بالنيابة العامة التي هي بطبيعة الحال أحد اجهزة القضاء والجهاز القادر على التعامل مع تلك القضية وغيرها.

جعجعة وضوضاء مزعجة

لقد برزت عمامة القاضي عصام في الوقت الذي كان اليمنيون يعيشون تفاعلات ساخنة ولدت من رحمها قوانين اعلان الذمة المالية وانشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وقانونها واللجنة العليا للمناقصات وقانون المناقصات والمشتروات والمخازن وحديثاً جدا \"الهيئة العليا للمناقصات\" وقانونها، حيث كانت جل تلك القوانين مثيرة للجدل بالكلية، فحينما يتعلق الأمر بالفساد، فليست مقولة \"تطبيق القانون\" هي الحل الذي يمكنه ان يطفئ المشكلة، بل ان تلك المقولة باتت مشكلةً بحد ذاتها تزيد الفساد اشتعالاً وعنفواناً!

تفوق في البنية التحتية ضد الفساد ولكن...!

تمتاز بلادنا بغزارة القوانين التي تصاغ بالتوازي مع أفضل القوانين العربية والعالمية مع تعمد إيجاد ثغرات واسعة وأحكام غير دقيقة يقوم القانون بتوفيرها للائحة القانون (التي لا تخضع لمناقشة البرلمان) لتفسيرها وتأويلها حسب رغبة الحكومة، وعادةً ما تكون ألفاظها مرنة زئبقية تكون مفتوحة على الكثير من التفاسير. ورغم كل ذلك، تمتاز تلك التشريعات بضعف إنفاذها. الى جانب ذلك، تمتاز البلاد بغزارة الهياكل والكيانات ومبانيها وموظفيها وميزانياتها والتي تختص بتحقيق الشفافية إلى حد وصل ان لكل وزارة إدارة رقابة ومراجعة داخلية أو مكتب فني يعني بمراجعة الاجراءات والحسابات أثناء العمليات الادراية والمالية والفنية. ورغم كل هذا، لم نتشرف أن نفتخر بتحسن موقع اليمن في قائمة الدول الهشة أو الفاشلة. ورغم هذا لا يخجل مسئولو الحكومة عند لقاءاتهم المانحين ودفاعهم عم اصلاحاتهم أن يفاخروا بوجود هذا الكم من المكونات ولا يستطيعون أن يفرحوا المواطن بضرب مثل واحد عن مكافحة قضية فساد حقيقية تم معالجتها بشكل عادل وتستحق المليارات التي تنفق على جهود الحكومة لمكافحة الفساد.

تقارير جهاز المحاسبة.. ووزن الريشة

هل يعرف أحدكم احد أضخم المباني الحكومية يقبع على صدر أحد التلال المحيطة بالعاصمة ولا أزال أذكر يوم افتتحه فخامة رئيس الجمهورية وكان يضم بين جنباته العليا ديواني مقيل حينئذ، ويومها كلف 6 مليارات ريال قبل حوالي 12 عاماً. إنه الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الذي تُناقش تقاريره (التي تحمل ختماً مهيباً يحمل اسم مكتب رئاسة الجمهورية) في البرلمان بعد 4 أو 6 سنوات من إصداره وعادة ما يكون الوزراء المعنيون بالتقارير قد استبدلوا بوزراء آخرين أو توفوا. وبحكم الخلفية القانونية لرئيس الجهاز السابق، فقد تم وبسرعة إقالة الرجل بتهمة الفساد وبشكل فاجأ الجميع كونهم غير معتادين على قرار قوي بهذه النوعية من السرعة والصرامة التي لم تعهد من الحكومة التي تشتهر بمداهنتها المسئولين كما يتزلف الكبار للمشائخ. لكنك ما ان تسأل احد موظفي الجهاز عن سبب تلك الاقالة السريعة حتى يخيب أملك حين يجيبك أن الرجل كان يضايق مكتب الرئاسة بمطالباته المتكررة بضرورة تقوية الصفة القانونية للجهاز وباتصالاته الملحة للنيابة العامة طالباً سرعة محاكمة من اتهمته تقارير الجهاز بالفساد. وُتزال شكوكك حول صحة ذلك حينما تقتفي أثر ذلك البروفيسور وتعلم أنه غدا اليوم رئيساً لهيئة التفتيش القضائي دون ان يخضع لأي اجراء قانوني ضد ما اتهم به باختلاس المال العام. نعم، لقد كانت معرفته القانونية تدرك سراً قانونياً لا يعرفه الا القليلون وهو ان تقارير الجهاز لا يعتد به كقرينة قانونية على الاطلاق.

لقد سمعت عن ذلك السر قبلاً، فعندما رغبت منظمة GTZ الالمانية الحصول على الدعم المعنوي و (الرياء) امام بقية المانحين الغربيين حين بادرت بدفع 5 ملايين يورو لتغطية نفقات تدريب موظفي الجهاز لعامي 2007 و2008، كدّر الجو المرح سؤال فضولي لموظف محلي يعمل لدى السفارة الأمريكية طرحه على وكيل الجهاز وهو يقول \"تريد السفارة ان تعلم مخرجات هذا المبلغ الكبير، فعندما يتمخض عنه تقرير عن فساد مسئول ويرسل للنيابة العامة لاتخاذ اللازم، فهل تعده المحكمة دليلاً قانونياً على فساد ذلك المسئول؟\" .... عندها تفاجأ بقية ممثلي الدول المانحة عندما سمعوا اجابة الوكيل المفاجئة عندما أكد بعدم فاعلية تقارير الجهاز \"كدليل إدانة\" في المحكمة. عندها صاح ذلك الموظف قائلاً \"طبعاً لم أطرح سؤالي الا لمعرفتي باجابتك، كما أعلم شيئاً آخر بجانب ذلك وهو أن تقديم المنظمة لذلك المبلغ ما هو الا مجاملة للشخصية الأولى المسئولة عن الجهاز قبل رئيسه والذي يعتبر صديقاً لدولة ألمانيا ويزورها سنوياً لقضاء اجازته.. وانسحب ذلك الموظف من ذلك الاجتماع ناقماً متمتماً. والآن ... بالتأكيد ندرك سر بقاء رئيس الجهاز الحالي في منصبه حتى الآن.

وندرك أحد أهم أسباب عدم فاعلية ذلك الجهاز الذي يفاخر سنوياً بكشفه 3000 الى 4000 حالة فساد واختلاس للمال العام سنوياً ولا تعير محكمة الاموال العامة والنيابة العامة لذلك أي اهتمام.