الثورات إنما قامت لتصحح أو تمحي الأخطاء التي وقعت بها شعوبنا سلفا، حيث صيرت هذه الأخطاء الخادم (الحاكم) سيدا والسيد (الشعب) عبدا والراعي ذئبا والمعمر مفسدا، وهذه الأخطاء تتمثل في التعامل العاطفي مع الأمور العظام. فالعاطفة تصنع زعيما ابتداء ينتهي به الأمر إلى دكتاتور، وهذا ما بينه لنا القرآن الكريم؛ فانظروا معي كيف تكون بداية صناعة الدكتاتور عاطفية بامتياز (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) في حين أن الحقيقة (ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام). والعاطفة دائما تكتفي بما يظهر من الأحداث وما ينمق من أقوال الأشخاص؛ (وإن يقولوا تسمع لقولهم) أي تميل. وهذا الميل وذلك الإعجاب المرتبط بالعاطفة ينتج عنه رضاً وجدانيا لا علاقة له بالعقل أو التعقل، فيعطي الأحداث والأشخاص أكثر من حقهم ويقرأهم على عكس حقيقتهم فلا يملك إلا أن يرضى؛ فهو أعجاب وميل يصل إلى حد الرضا وهو ما نلمسه في قوله تعالى: (يرضونكم بأفواههم). في حين أن الحقيقة (وما تخفي صدورهم أكبر). وهذه المرحلة ممكن أن نطلق عليها مرحلة صنع الزعامات على حساب تنكيس القامات والهامات بتحييد العقل.
فالرضا الانفعالي الذي هو نتيجة الإعجاب بالأقوال (لا بالأفعال) يتطور شيئا فشيئا حتى يصل إلى درجة التقديس والتأليه للزعيم وهذا نتيجة الانجرار بل الانجراف وراء العاطفة الجمعية للشعب التي يبتدئها الزعيم بالود وينهيها بـ "اللِّد" فقليلا من الشعارات والخطابات من قبل الزعيم يقابلها سيل جارف من عواطف الشعب يجرف العقل ويشل عمله حتى تصل تلك العاطفة أو ذلكم الرضا إلى حد بعيد من التقديس والتأليه يفصح عنه شعار الشعب (بالروح بالدم نفيدك يا زعيم) وإذا ما وصل التحول الوجداني والعاطفي إلى هذه الدرجة من السذاجة لا يجد الزعيم نفسه إلا إلها ومن هنا تبدأ مرحلة (الدكتاتور) الذي يُضحك ويُبكي، يُسعد ويُحزن، يحيي ويميت (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) بسبب الانجراف العاطفي اللا متناهي الذي لم يترك فيها الشعب فسحة لعقله حتى يقيس الأمور بمقاييس منطقية وليست تأثرية. وحتى يضع هذا الذي تولى في موضعه المناسب عقلا ومنطقا. فالتجليات العاطفية عندما تحكم في الأمور العظام غالبا ما تنتهي بكوارث أخلاقية.
لكن لو تعاملنا مع الأحداث والظواهر في إدارة شئون البلاد بمنطقية ميزانها العقل لوضعنا كل شيء في نصابه، ولكنا وضعنا السيف في جرابه، فحتى مع افترض أن ذلك الذي تولى في حقيقة أمره مثاليا وليس في أقواله فقط، وإذا ما كنا متأكدين من ذلك بما نسبته 100% فإن علينا أن تعامل مع الوضع بعقولنا وننحي عواطفنا جانبا، بمعنى أن هذا الذي تولى وإن بلغ من المثالية ذروتها ومن التواضع غايته فإنه إنما يؤدي واجبه وكل ما يصنعه لشعبه هو من واجباته وليس من تضحياته، إما إذا كانت تلك الخطابات تصنعا فهذا يعني الانزلاق في الهاوية، ونحن عندما نركن العقل وننحيه جانبا ونتعامل بعواطفنا مع الأحداث الجسام نعطي الأحداث والأشخاص أكثر مما تستحقه.
وها هي الأخطاء نفسها أراها تتكرر بعد الثورات ،والتي ما جاءت هذه الأخيرة إلا لتصححها، وهذه الأخطاء نجدها عند بعض المثقفين من خطباء وصحفيين وإعلاميين، وأقصد بهذه الأخطاء الانجرار وراء العاطفة في الحكم على الأحداث والأشخاص الذي قد يؤدي إلى انجراف، وهو ما رأيته –مثلا- من تمجيد بعض المثقفين لشخصية "اللواء على محسن"، لنجد –مثلا- كاتبا يعنون لمقاله (الفارس الذي فكك ...) وخطيب آخر على درجة كبيرة من الشهرة يقول إن هناك من القادة – ويقصد اللواء علي محسن- من ضحى من أجل الثورة وهو ليس بحاجة إلى تلك التضحية وإني لأعجب متى يكون القيام بالواجب الشرعي والأخلاقي والوطني والإنساني تضحية أليست هذه الأقوال أو الأحكام عاطفية بامتياز والعقل والمنطق منها براء فالفارس الذي فكك المملكة هو الشعب وليس علي محسن وهذا الأخير إنما قام بواجبه تجاه شعبه وموقعه يحتم عليه ذلك وليس منه تفضلا ولو لم يقم بذلك فما كان ليختلف عن آلا صالح كما أن ما قام به اللواء علي محسن كان باستطاعة أي شاب من شباب الثورة القيام به لو امتلك منصب وعدة اللواء ، فإذا ما قام علي محسن بواجبه كقائد عسكري تجاه وطنه فإن ذلك لا يستوجب الشكر؛ فكيف بالتمجيد والمبالغة فيه؟
أتمنى ألا نقع في الأخطاء نفسها فالثورة جاءت لتفرز كرامات لا لتلد من جديد زعامات، والذي انظم للثورة -أيا كان مقامه الاجتماعي أو القبلي- فإن ذلك الانضمام ليس منحة منه بل واجب قد أملاته عليه وطنيته وفرضه عليه واجبه تجاه وطنه وليس تفضلا منه، فيكفيه شكرا وفخرا وتمجيدا أن تلتصق به صفة "الوطني"، ومن ناهض الثورة وقتل الثوار كفى به عقابا وذلا وخزيا أن تلتصق به صفة "الخائن"، فالثورات لن تسمح بالعودة إلى الوراء والوقوع في نفس الأخطاء فالشعب الحارس هو الذي فكك المملكة وليس الفارس.