شروخ في جدار الوطن.. الأعراض الانسحابية قاتلة«11»
بقلم/ السفير/الدكتور عبدالولى الشميري
نشر منذ: 11 سنة و 11 شهراً و 9 أيام
الخميس 06 ديسمبر-كانون الأول 2012 06:09 م

هل دول الخليج مع استقرار اليمن ووحدته حقاً؟ أم مجرد تعابير دبلوماسية؟!

كل عام وأنتم في ثورة واستقلال...!!!

في كل ذكرى لاستقلال جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني نوفمبر سنة 1967م وفي كل ذكرى لقيام ثورة سبتمبر 1962م نتبادل التهاني والتبريكات وعبارات المجاملات الثورية، وكأننا صنعنا بالثورتين حضارة الأندلس، أو غزونا بهما الفضاء، أوكأن الثورتين قدمتا لليمن شمالاً وجنوياً بساتين الفردوس أو زرعنا بهما حدائق الخلود، نتبادل التهاني عادة وحالياً التهم والشتائم، وقلوبنا حزينة على أزمان وعقود تفلتت من أيدينا من عمر البلاد في زراعة الألغام الفردية في الريف، وفي زراعة الجواسيس في المؤسسات الحكومية، والأسر والمجالس الخاصة، والبيوت، وفي استيراد أجهزة التعذيب، وفي زراعة الحقد والكراهية والتنابز بالألقاب، والأنساب، والنعرات، وزراعة المستقبل بأحقاد ربما يشتوي بها الأحفاد، ونبشنا بفضل الوحدة المباركة آلاف الثارات الدموية، وطورنا ثقافة دواوين مجالس القات ديوان طراز L وديوان طراز U وديوان طراز O ، وطورنا ثقافة العسيب والمسدس والاكتفاء الذاتي من نشر الأسلحة الخفيفة والمتوسطه والثقيلة، والمبيدات السامة في القات، نعم نتبادل التهاني بذكرى الثورتين والسباب بمناسبة الوحدة، ونرى القاتل يهنئ المقتول، والمحتكر يهنئ الجائع، والمستبد يهنئ المقهور، وكلما جاء مستبد جديد هتفنا له عاش عهدكم المجيد، واحتفلنا معه برحيل الأقل استبداداً، و(كلما دخلت أمة لعنت أختها). وتاهت سفينة الوطن في بحر الوهم واختفت أشرعتها.

اليمنيون جميعهم تحت خط الفقر، عدا الذين تسلطوا على رقاب الشعب، وامتصوا دماء الجائعين من أبنائه، وإلا تجارهم الذين صنعوهم للفوز بالمناقصات الحكومية والممولة بالعمولات من قوت الشعب.

أما الجائعون المعدمون وأصحاب الدم الحار، والثورجيه على قول المصريين، فلهم الحق الكامل في التراشق بالتهم والشتائم، ضد بعضهم البعض فقط، كجزء من ثقافة الحرية والوعي، وبئست الحرية، وتب لذلك الوعي، وآه على خمسين سنة من عمر اليمن التعيس ذهبت أدراج الرياح وراء المغامرين.. وكل عام وأنتم بخير.

نحن اليمنيين طيبون قلوباً، وساذجون عقولاً، يستطيع أغبى طاغية، وأقسى جلاد أن يمتص دماءنا نهاراً ويمضغ لحومنا ليلاً، ثم يستيقظ فجراً على هتافاتنا بحياته وبنعمة الحرية الكاملة لممارسة حقنا المشروع في التغزل ببطولته وإنجازاته، وأن نصفق لصورته، ونتغنى بمجده، وعائلته، وأن نطلق على هذا أسعد الكامل، وعلى ذلك سيف بن ذي يزن، ولنا كامل الحق ومطلق الحرية في أن نردد الشعارات الثورية، وندق الطبول، والدفوف، ونحيي حضارة البرع - بفتح الراء - ونغني مع العم أيوب: (لمن كل هذي القناديل تضوي لمن)؟؟!!

في الوقت الذي بيوتنا مطفأة من الكهرباء، ورسائل وزارة الداخلية الإخبارية تنشر عدد الذين سقطوا بسياراتهم في الطرق التي شقها وسفلتها الإمام الطاغية قبل خمس وخمسين سنة في جبل مناخة أو سمارة، تقدر خلال الشهر 3700 راكب، وفي السنة 17050 قتيلاً، والداخلية تهيب بالسائقين أن يتجنبوا التهور. ولا تهيب بثورة سبتمبر أن توسع الطرق على الأقل بقدر طريق الإمام، أما أخبار حروب الثأرات، وأخبار الاختطافات، وقطاع الطرق أبرز عناوين أخبار بلادنا، ومنجزات ثورتنا السبتمبرية المجيدة، في الوقت الذي نرى ثوار سبتمبر يقبعون في أمراض الشيخوخة، ووساوس الفقر، وأوجاع الأمراض في داخل البلاد وخارجها، لا يعلم عنهم أحد حيثما جرى بهم قلم الله، وأحاط بهم علم الله، أما الأحباب أبطال ثورة أكتوبر في الجنوب فقد نجو من أوجاع الشيخوخة، والأمراض، والفقر، والتشرد الذي لحق ثوار سبتمبر في الشمال؛ لأنهم أراحوا أنفسهم بالتصفيات الجسدية، وحصدوا أنفسهم بأنفسهم في عز الشباب وإلى المقابر الجماعية مأواهم، وورثتهم مازالوا يبحثون عن بعض مقابر آبائهم الثوار، مرة في معارك (الفجر الدامي) ومرة في معارك (الليل الدامس) أما قطيع الأتباع فمقهورون من إحراق المتطرفين الشماليين مصنع صيرة الوطني لإنتاج الخمور والمشروبات الروحية، في المنصورة سنة 1994 خلال حرب الوكلاء الذين أيد الأول منهم الرفيق صدام حسين في احتلال الكويت، وأيد الثاني حرب تحرير الكويت، وكانت حروباً بالوكالة من أجل قوى خارجية، لا من أجل الجنوب، ولا من أجل الشمال، ولا من أجل سبتمبر، ولا من أجل أكتوبر، مبعثها أطماع المغامرين القدامى. وضحاياها السذج من أبناء اليمن، نعم بعضهم حزانى حتى اليوم على إحراق الإنجاز الصناعي الوحيد لثورة أكتوبر، وهو مصنع صيرة لإنتاج المشروبات الروحية الذي أقدم الغزاة الدحابشة على ارتكاب جريمة إحراقه الشنعاء، مع كميات الخمور التي كانت فيه، ولأن الدحابشة ـ كما يحلو للبعض تسمية الشماليين ـ والحمد لله لم يجدوا في الجنوب لثورة أكتوبر مصانع الدواء ولا للألبان، ولا للملابس ولا للمياه المعدنية، ولا للبخور والعطور، وإلا كانوا أحرقوها ونهبوها، لا رحمهم الله.

أما عن وطن ثورة سبتمبر في شمال اليمن فرحم الله الشيخ زائد بن سلطان الذي ضحى بقيمة سد مأرب للشركة التركية التي أعادت بناء نصف سد مأرب القديم، وعجزت ثورة سبتمبر وعصرها المزدهر بالشعارات، وطبولها، وخيولها، وحكمها الرشيد أن تمدد قنوات توزيع مياه السد للمزارعين في وادي الجنتين، والمضحك أن قيمة القنوات دفعها أيضاً الشيخ زائد، ولكن القيمة يبدو أنهم صرفوها في بناء (دشم) عسكرية على طريق الجدعان، وأصبح السد ترعه، نتغزل بإنجاز الشيخ زائد العظيم، ونعتبرها أهم المنجزات في الشمال، ليغرق فيها كل عيد سعيد عشرة أطفال، ولا يوجد حتى سباح واحد لإنقاذ الغارقين، وإلا ما هي عائدات السد الاقتصادية إذاً.

ما أطول رحلة الضياع، وما أكثر المحبطات في تأريخ يمننا المعاصر الحبيب. أشعر بهستيريا الضحك أحياناً عندما أتذكر إبداع المغامرين في ابتكار وسائل الحفاظ على التخلف ومهارتهم في المكايدات التآمرية ضد بعضهم البعض، وفي الخطوط الخلفية داخل نظام صنعاء، وداخل نظام عدن أسرار عجيبة، فبعضها مضحكة والأكثر منها مبكيات، ولم ينشر منها إلا اليسير جداً، ومثلاً على ذلك: في منتصف السبعينيات، دعا الرئيس إبراهيم الحمدي حامل مشروع الدولة الشيخ زائد بن سلطان لزيارة اليمن، وقد أعد له شجرة النسب لقبيلة آل نهيان في مأرب، ونفخ في عروقه القناعة بالعودة لبناء حضارة الجدود في مأرب وصرح بلقيس وبناء السد وسفلتة طريق صنعاء مأرب، وإعادة هيكل العرش، واعتمد كامل التكاليف على حساب أبو ظبي، ولما كان مساء يوم الرحلة للزعيمين من صنعاء لمأرب جواً حدث ليلتها فصل مضحك هو أن أموال المحافظين على التخلف، أعداء بناء الدولة، تحركت في جوف الليل وبادروا بحرث مدرج مطار مأرب بالحراثات ليلاً حتى لا تهبط طائرة الرئيس الحمدي، والشيخ زائد، وكان ومايزال مطار مأرب ترابياً، وبهذه العقلية الإبداعية نجحت فكرة إلغاء الرحلة وإجهاض المشروع، كما نجحوا فيما بعد في فكرة إجهاض الدولة، فرحم الله الحمدي والشيخ زائد، ورحم الله الدولة المدنية، ورحم ذلك المشروع الكبير. تلك القصة المضحكة المحزنة هي واحدة من إنجازات المغامرين، أبطال التسلق، وفرسان التخلف.

ودعوني مع شاعر النيل بتصرف:

وكم ذا (بأرضي) من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكاء

 وإن نسيت فلن أنسى أن لنا من المنجزات أيضاً الحق أن نهتف ونصفق لبطولات المغامر رقم واحد، وللمائة الأوائل من عائلته المقدسة ( Top Hundred )..

أما بعد:

نقطتان لابد أن نصارح أنفسنا بهما: الأولى أن أشقاءنا في دول مجلس التعاون الخليجي الذين كتب لهم الحظ بالثروة والغنى، وكتب عليهم النحس أن نكون جيراناً لهم، وكتب لنا في جوارهم الفقر أن يتوقفوا عن البيانات العاطفية التي تؤكد وقوفهم مع اليمن، وأمنه واستقراره وسيادته ووحدته... إلخ فما أغناهم عن هذه البيانات، وما أغنى اليمن عنها أيضاً.

إن اختصار الطريق لإثبات صدق النوايا والصدق هو أفضل وأقصر طرق الإقناع، فإما احتواء اليمن شمالاً وجنوباً يكون خياراً استراتيجياً كجزء من كينونة الموقع الجغرافي للجزيرة العربية، وعضو كامل لمنظومة دول الخليج، وسرعة إعلان ضمه كاملاً في دمج شامل، واستلام كامل ملفاته وسياسته الداخلية والخارجية، وتطبيع حياة مواطنيه في نسيج محيطه الجغرافي، وتولي تطهيره من السلاح، والإرهاب، والتخلف، والفقر. وذلك مقابل أن نتنازل لهم مجاناً عن الإنجازات التي سردتها بدون تفاصيل، وتخلي اليساريين اليمنيين عن شعارات مناهضة الانبريالية والرجعية التي رضعوها من طفولتهم، ويتخلى اليمنيون عن ديموجراطية الاستبداد الجمهوري، وعشرة ملايين طن من القات سنوياً، وخمسين مليون قطعة سلاح. وهذه المقايضة لا ظالم فيها ولا مظلوم.. وإذا لم يقتنعوا بقيمة المقايضة فليأخذوا أيضاً تكملة الفارق خمسين حزباً سياسياً يشتم بعضهم بعضاً، ويحشد بعضهم لمواجهة بعض ولهم كدعاية إضافية مجانية تنظيمان عسكريان من الأبطال المغاوير لا أرغب في تسميتهما كعلاوة إصدار. ويأخذوا منا كل المانحين، وما يمنحون، ونظن أنهم لو صدقوا وأرادوا احتواء اليمن فإنهم سيجدون أغلبية يمنية صامتة تقف معهم، وتؤيد أفكاري هذه، أما التعابير الدبلوماسية والألفاظ المنمقة المهذبة، ولا يعول عليها أحد، ولا يصدق عاقل أنها بريئة أو أنها تحمل شيئاً من الحلول والتعاطف. وعليهم أن يسحبوا كرة القدم التي تفضلوا بضم اليمن في جانبها لدول مجلس التعاون، فلربما لأن الجائع لا يقوى على الجري والركض وراء كرة القدم وكأنها فكرة ضم مهزوم كروي.

فاليمنيون اليوم ينظرون لجيرانهم بعيون الفقير الجائع إلى الغني المتخم، ولكم أن تتصوروا كيف تكون، إنهم يصرخون ويتباكون في اللهث وراء كفيل للحصول على فيزا عمل باليسير من القوت، وكل مساء وصباح يصرخ اليمنيون دولة وشعباً يا أهل الخليج: (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) ويبتهلون: (إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل).

وكلما تأخر الزمن وتباطأ الخليجيون عن احتواء اليمن لغرض تخلصه من التخلف والمزعجات فإن المصائب تتكاثر، والتخلف يتراكم، والمزعجات تتزايد، فخذوه أيها الأحباب الخليجيون ـ مظفراً فقط. وإلا ستأخذوه ببقية المثل لاحقاً. بعد ان نفقد ما بقي من الآمال.

وهنا أتذكر طريفة من تهامة تنطبق على موضوع حديثي هذا عن اليمن ودول الخليج؛ حدثني بها أستاذي المرحوم عبدالله بن إبراهيم الضحوي، أن خطيباً وعظ الناس بأن الفقير الجائع شرير؛ لأن الجوع بئس الضجيع، وقال: (كاد الفقر أن يكون كفراً). فقام أحد الفقراء الجالسين في المسجد مغضباً، وأخذ حذاءه تاركاً صلاة الجمعة وقال للخطيب باختصار قول الفقير (كافرو) وبس وليش الكدكده كاد كاد.. أما النقطة الثانية: فما نراه من أعراض التوتر والشحن للقلوب بالبغضاء في صدور إخوتنا بعض الجنوبيين والنفخ والتوتر باسم الاستقلال والمطالبة بفك الارتباط السياسي بين الجنوب والشمال، وكأن الشمال غني والجنوب فقير، والحقيقة كلاهما أغنياء بالقات، والعداوات، والثارات، وبالمغامرين القدامى، يشحنون الصدور والسطور بعدائية ضد البسطاء الفقراء من الشماليين، أعوذ برب الفلق من عمى القلوب، وكأن الشماليين الذين ينامون على أرصفة الشوارع في عدن والمكلا والباعة المتجولين بالخردوات والقات، هم الحكام القادمون من صنعاء أو أبين، وأرى الحقد الأسود في عيون الأغبياء يتطاير ضد هذه الشريحة المغلوبة المسحوقة، أكثر من الحقد والعداء ضد المستبدين الذين أفقروا الجميع وظلموهم وسلبوهم كل جميل، إن أولئك المغامرين الذين ورطوا البلاد وأفقروا العباد وزرعوا الفتن والأحقاد يتوارون في قصور البغي والبغاء، ويستمتعون بحقن القلوب البيضاء بالعداوات ضد بعضهم البعض.

إنني أفهم أنها حالة مرضية تسمى الأعراض الانسحابية من الجسد كأعراض انسحاب المخدرات، وأعراض انسحاب مادة القاتئين من الجسد، المسمى رازم القات، أو ما نسميه الدكاك، ومثل آلام انسحاب حالة العشق وجنون الحب عند المحبين. فتحدث تصرفات غير طبيعية، واعتداءات في الاتجاهات العكسية، حين تكون مفاصل الجسد مستوجعة من شدة الأعراض الانسحابية، وقد يموت المريض، وقد يموت الحب، كما يموت ويقتل حب الإخوة بين أبناء الوطن الواحد، ثم إذا اكتملت أعراض وأمراض الانسحاب، وتشافى المريض يبدأ الشعور بالندم على تعاطيه ما يضره. وهذا مثل بسيط ينطبق على هوس جنون اليمنيين بالوحدة السياسية، وهالة التقديس التي رافقت حياتنا، وطفولتنا، وشعارات الحب والعشق التي تشربناها في مناهج التربية الوطنية، وخطب المغامرين القدامى، بالإضافة إلى شعارات كبيرة أبرزها قول زعيم إخوتنا في الحزب الاشتراكي قبل الوحدة: (ستظل الكلمة ركيكة المعنى مجزأة الحرف ما لم تكن من أجل إعادة تحقيق وحدة اليمن)، وجاءت الوحدة ولكن على كف عفريت، فصبراً على أوجاع الأعراض الانسحابية ثمناً لإدمان الجنون العاطفي.

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

shemiry@shemiry.com