توجيه عاجل من مكتب الصحة بالعاصمة صنعاء برفع جاهزية المستشفيات وبنوك الدم وتجهيز سيارات الإسعاف ما حقيقة خصخصة قطاعات شركة بترومسيلة للاستكشاف النفطية في اليمن أبرز خطوة رسمية لتعزيز الوسطية والاعتدال في الخطاب الديني في اليمن وزير الأوقاف يفتتح أكاديمية الإرشاد مدير عام شرطة مأرب يطالب برفع الجاهزية الأمنية وحسن التعامل مع المواطنين أردوغان في تصريح ناري يحمل الموت والحرب يتوعد أكراد سوريا بدفنهم مع أسلحتهم إذا لم يسلموا السلاح عاجل: محكمة في عدن تبرئ الصحفي أحمد ماهر وتحكم بإطلاق سراحه فوراً الاستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية في اليمن يخدم الحوثيين ... الإقتصاديون يكشفون الذرائع الحوثية الإدارة السورية الجديدة توجه أول تحذير لإيران رداً على تصريحات خامنئي.. ماذا قال؟ هجوم مضاد يسحق الميليشيات في تعز والجيش يتقدم إلى شارع الأربعين و يسيطر على مناطق استراتيجية حاكمة.. مصرع وإصابة 23 حوثيًا نزوح للمرة الثانية في مأرب.. أكثر من 2500 أسرة تركت منازلها مضطرة
يقدم «العرب الحسانيون» في صنعاء ونواكشوط مشهدين متناقضين في الديموقراطية العربية الهشة. ففي صنعاء, موطن الحكمة اليمنية التي تاهت أخيراً، أضاع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح فرصة ذهبية ليدخل تاريخ العرب المعاصر، كأول زعيم يتنحى عن القيادة طوعاً، ولا «يخضع لضغوطات الجماهير» بالاستمرار في الزعامة. فقد قرر بشكل مؤسف أن يلتزم بتقاليد طابور القادة العرب في النصف الثاني من القرن العشرين الذين اختلفوا في كل شيء ما عدا تمسكهم بالكرسي وعدم تخليهم عنه إلا عن طريق قوة القدر بالموت أو قوة المعارضة بالانقلاب العسكري.
أما أحفاد بني حسان على ضفة الأطلسي فقدموا مشهداً مغايراً. ففي بلاد شنقيط، موطن المليون شاعر، أجاد الرئيس الموريتاني أعلي ولد محمد فال في تصميمه على تعديل الدستور وإعتماد ذلك التعديل باستفتاء شعبي يحدد ولاية الرئيس بخمس سنوات تجدد لمرة واحدة فقط. الرئيس الموريتاني الانتقالي قدم من ثكنات العسكر وأطاح نظام حكم معاوية ولد الطايع الجمهو - ملكي، وحظي انقلابه بتأييد شعبي عريض. ووعد بأن يعيد السلطة للمدنيين فور تهيئة الأجواء لانتخابات ديموقراطية على أسس دستورية صحيحة. أمام الرئيس الموريتاني فرصة ذهبية ليدخل تاريخ العرب المعاصر إلى جانب عبدالرحمن سوار الذهب العسكري السوداني الذي التزم بوعده وسلم السلطة للمدنيين في غضون سنة، بعد أن انقلب على الفوضى التي كانت سائدة في سودان الثمانينات. لكن خطوة التعديلات الدستورية الموريتانية التي تنص على التناوب السياسي وتقطع الطريق على الاستبداد وتحظر على من هو فوق عمر الـ75 الترشح للرئاسة هي خطوة مفصلية ومهمة.
يمنياً كان كثيرون قد كتموا تفاؤلهم الحذر عندما أعلن الرئيس علي عبدالله صالح عن تصميمه «الذي لا رجعة فيه عن ترشيح نفسه»، ونفيه أن يكون ذلك الإعلان مسرحية، وتصميمه على أن يتم تداول السلطة بالأسلوب السلمي وأن «الملعب للمنافسين السياسيين الآخرين جاهز». فقد سبق وتكرر هذا الإعلان وهذا التصميم في ترشيحات سابقة. كما أن كثيرين أستاءوا أكثر من مظاهر اللطم الحزبي التي أظهرها حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في مؤتمره الاستثنائي و «ضغوطه» على الرئيس ليعيد انتخابه، وكأن هذا الحزب عاقر لا يمكن له أن ينجب ولا حتى بديلا واحداً للرئيس الحالي. لكن الاستياء الأكبر كان جراء المسيرات والتظاهرات التي خرجت في شوارع صنعاء والمدن اليمنية «تطالب» الرئيس بالترشح مرة ثانية، ليبقى في الحكم سبع سنين أخرى، ويكمل بها وجوده على رأس النظام منذ عام 1978. فكأن هذه المسيرات تقول إن الشعب كله صار عاقرا، وأنه سيصبح يتيما ومشرداً إن أصر الرئيس على قراره بعدم الترشيح.
موريتانياً، السؤال الكبير المطروح هو حول تصميم وإمكانية الموريتانيين وقيادتهم الموقتة في المحافظة على الخطوة الدستورية المهمة. وفي تكريس سابقة في بلاد المغرب العربي يتوق إليها الأحياء والأموات ايضا وهي تحديد الفترة الزمنية التي يمكن للحاكم أن يستمر فيها. التخوف الأكبر والدائم من التعديلات الدستورية يكمن في أنها مرهونة بإرادة من هو في سدة الحكم. وطالما أن هذه التعديلات لم يتم إحتضانها من قبل مؤسسات دستورية عريقة ورأي عام يصعب التلاعب به، فإن خطر إعادة شطبها أو تعديلها بشكل يخدم مصالح رئيس جديد يظل قائماً. فإن جاء قائد ما يستبد به شبق السلطة فالعادة المكرورة الكريهة تشير إلى أنه سيكرس كل جهده وعبقريته في كيفية تعديل الدستور ليضمن بقاءه على رأس السلطة إلى أن يموت. وهكذا فإن القلق الذي يجب أن يساور حكماء الموريتانيين في هذه اللحظة الديموقراطية الجميلة هو كيف يمكن المحافظة على المادة التي تحدد التجديد للرئيس بولاية إضافية واحدة فقط دستورياً، وحظر تعديلها في المستقبل؟
يمنياً، تفاصيل المشهد اليمني السياسي الحالي، بما فيه الإحجام الأولي للرئيس عن الترشح بعد فترة حكم 27 سنة، ثم «رضوخه لرغبة الجماهير»، تختزل جوانب أساسية من الكارثة السياسية التي نعيشها في العالم العربي بشكل عام. هذه الكارثة تتجسد في جوانب عدة، أولها عدم وجود بديل للقائد المتحكم بمصير البلاد والعباد. فقادة العرب على اختلاف تنويعاتهم يمتازون بفرادة واستثنائية خارقة لا يساويهم فيها أحد. ولهذا فإن الأنظمة العربية، في غالبها، تحتضن بقوة مبدأ عدم تعيين نائب للرئيس أو للزعيم، للتدليل على أن لا أحد يمكن أن يقترب من فرادة القائد، وبالطبع لدحر أي احتمال للإحلال السلمي، أو الانقلاب غير السلمي.
ولأن في أيدي هؤلاء القادة خيوط التحكم بمصائر الشعوب والأوطان، فإنهم يخلقون حولهم دائرة من الفراغ التام خلال فترات حكمهم الطويلة. هذه الدائرة هي «مثلث برمودا» الخطير الذي يلتهم كل من يقترب منه، فيما يبقى المركز في قلب ذلك «المثلث» محافظاً على نفسه وسيطرته وقيادته للأمور. فلا أحد يعلم عن آليات الحكم وكيفية إدارة الدولة وتفاصيل الاتفاقات والصفقات والمساومات السياسية والمالية. وبعد عقدين أو ثلاثة من الحكم، كما هو حال كثير من الدول العربية، فإن دائرة الفراغ التام تكون قد قضت على كل من يطرح نفسه بديلاً وتسول له نفسه الاقتراب من المركز. ويصبح «من المنطقي» جداً أن يواصل الرئيس مهماته الوطنية ويجدد ترشيحه وينتخبه الملايين الذي لا يرون غيره مناسبا للرئاسة.
منطق «مثلث برمودا» يفرض نفسه على الجميع كواقع محبط لكن مقنع، حيث «لا يوجد بديل مؤهل»! يفاقم هذا المنطق من الكارثة التي تشتغل على أكثر من مستوى، أخطرها مستوى النخب السياسية، والمستوى الشعبي العام. إذ تصبح مقولة «لا يوجد بديل مؤهل» هي العملة الوحيدة السائدة، حتى في أوساط التيارات المعارضة. ولأن جبروت «مثلث برمودا الاستئصالي» يظل يعمل بلا توقف طوال سنوات وعقود فإنه يقود الشعوب والأوطان في لحظة الحسم، التي أراد أن يمارسها الرئيس اليمني، عندما أحجم عن الترشح، إلى واحد من خيارين: إما التجديد للرئيس أو ... الطوفان. وما قاله الرئيس اليمني في سياق نفيه أن يكون متشبثا بالسلطة أو أن يكون من أصحاب منطق: إما أنا أو الطوفان، هو ما يقوله الواقع اليمني الذي يدركه الرئيس صالح والذي تطور يوما بيوم مع فترة حكمه.
مقولة «لا يوجد بديل مؤهل» التي تؤسس عليها بطانات السوء حملات دعم مرشحها الخالد تحمل تفاهتين في آن معاً. الأولى راهنة وتقضي بأن كل الشعب وقواه ونخبه ومؤسساته لم تستطع أن تنجب قائدا آخر. والثانية مستقبلية تستخف بعقول ابناء الشعب وقواه ونخبه ومؤسساته، بتغافلها عما تضمره، فاذا لم يكن هناك بديل مؤهل في الوقت الراهن وفي ظل وطأة وهالة القائد الحالي فكيف يمكن أن يتطور هذا البديل في المستقبل، اي بعد سبع سنوات في الحالة اليمنية، حيث ستتفاقم هالة القائد وتتعزز صورته وفرادته، وتقل فرص بروز منافسين له؟ إن كان هناك إحتمال لنشوء بديل الآن مهما كان ضعيفاً فإن هذا الإحتمال نفسه سيضعف بعد سبع سنوات. حالة اليمن بالطبع ليست فريدة إذ تنطبق بالتمام والكمال على معظم البلدان العربية بشكل سوريالي ومحزن.
تغيب الحكمة اليمنية عن صنعاء اليوم، ونتمنى أن لا تغيب عن نواكشوط. فالخطر الذي قد يحيق بعملية التحول الديموقراطي في موريتانيا لا يحتاج إلى ذكاء باهر لالتقاطه، إنه خطر بروز «مثلث برمودا سياسي» مماثل لما برز في الحالة اليمنية. فمثلث كهذا يقضي على البدائل والخيارات ويجهض العملية السياسية ويحبطها ويحولها إلى مجرد ركام ديكوري كما كانته أيام الرئيس السابق ولد الطايع. التعديلات الدستورية التي أقرتها غالبية الموريتانيين هي العتبة التي لا بد من المرور بها ولا بديل عنها لإهالة التراب على ذلك المثلث وطمسه. لكن يجب أن تتبعها خطوات إضافية لأن المثلث الخطير تكرس عميقا عبر عقود طويلة مديدة ويحتاج إلى انتباه وإلا عاود البروز وعاود الابتلاع، وببروزه تعود الأمور إلى مربعها الأول.