لماذا أصّر صالح على ضرورة وجود آلية تنفيذية للمبادرة ؟
بقلم/ عادل أمين
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر
الأحد 01 يوليو-تموز 2012 04:31 م

سنة ثانية ثورة .. إعادة قراءة المشهد.

سنة وبضعة أشهر مضت على اندلاع الثورة الشعبية اليمنية التي انطلقت شرارتها الأولى في الحادي عشر من فبراير 2011. الثورة حققت بعضاً من أهدافها وأسقطت رأس النظام, وجاء رئيس جديد للبلاد, وإن كان جزءاً من النظام القديم, وشُكلت حكومة وفاق مناصفة بين أحزاب المشترك وحزب المؤتمر. واستطاع الرئيس هادي, خلال الفترة القليلة الماضية, إزاحة بعضاً من أقارب صالح في المؤسسة العسكرية والأمنية, بمساندة ضغوط دولية أجبرتهم على الإذعان لقراراته.. وإن كان اللواء الثالث حرس جمهوري الذي ظل متمرداً على الرئيس هادي طيلة شهرين كاملين أنهى تمرده, ليس طواعية بالطبع, وإنما نتيجة انتفاضة عسكرية مضادة أطاحت بقادة التمرد وسلمت القيادة للشرعية. أما شباب الثورة الذين قدموا أكثر من (2000) شهيد, وما يربو على (25) ألف جريح كوقود لثورتهم, فما زالوا يرابطون في الساحات؛ فهم أجبروا صالح على الرحيل, لكن البنية السياسية والعسكرية لنظامه ما تزال قائمة, ومطالبهم بإقصاء بقايا عائلته من المؤسسة الأمنية والعسكرية لم تتحقق بعد.

في البدء كانت ثورة

يبدو غريباً حقاً أن تؤول أوضاع الثورة الشعبية اليوم إلى مجرد أزمة سياسية بين فصيلين سياسيين, وبخاصة بعد المبادرة الخليجية التي من المفترض أنها كانت بمثابة اعتراف إقليمي صريح بالثورة وبحقها في التغيير, استتبعه اعتراف دولي ضمني من خلال تأييد المجتمع الدولي لها. وللتوضيح أكثر: فعندما تفجرت الثورة في وجه النظام وخرج الثوار إلى الشارع, هل كانوا وقتها يطالبون بحوار وطني لتحديد شكل الدولة, وصياغة دستور جديد للبلاد, وحل أزمتي صعده والجنوب, وتشكيل حكومة وفاق وطني؟ صحيح أن تلك المطالب هي جزء من الأهداف المرحلية للثورة, لكنها لم تكن هدفاً أصيلاً, أو ضمن لائحة الأهداف الآنية والمُلّحة لشباب الثورة. فالشباب خرجوا ينادون برحيل صالح, هدفهم " الشعب يريد إسقاط النظام". هذا هو الهدف الكبير الذي خرجوا لأجله وقدموا له التضحيات. الشيء الآخر, أن صالح هو من كان يعرض- في إطار سياسة المراوغة المعروفة- تنازلات خارج سياق الثورة, وبعيداً عن مطالب الشباب, لحرفهم بعيداً عن أهدافهم, تمثلت آنذاك فيما عُرف بمبادرة الرئيس وعلماء اليمن ذي النقاط الثماني (28 فبراير 2011), ثم مبادرته الثانية ذي النقاط الأربع ( 10 مارس 2011)؛ حيث تضمنتا عروضاً من قبيل, تشكيل حكومة وحدة وطنية, وإعداد دستور جديد, والانتقال إلى نظام الحكم البرلماني, والحكم المحلي كامل الصلاحيات, وتهيئة الأجواء لحوار وطني, وإجراء إصلاحات انتخابية تمهد لانتخابات رئاسية مبكرة مطلع 2012. وفي مبادرته الثالثة والأخيرة, التي تقدم بها في 30 مارس 2011, اقترح صالح تشكيل حكومة توافقية من المؤتمر وأحزاب المشترك، وأن تكون هذه الحكومة «انتقالية»، كما اقترح أن ينقل إلى هذه الحكومة صلاحياته الدستورية، مقابل البقاء في منصبه حتى نهاية ولايته عام 2013. وتضمنت كذلك مقترحات بأن يكون منصب رئاسة الحكومة من نصيب المعارضة، وتقاسم الوزارات بالتساوي، مع احتفاظه بصلاحياته على وزارتي الدفاع والخارجية. لكن كل تلك المقترحات قوبلت بالرفض الشديد من الثوار والمعارضة معاً, اللذين توحّدا حول مطلب واحد هو رحيل صالح وتسليم السلطة على الفور. فالثورة حينها كانت في أوج قوتها وعنفوانها, ولم تكن لتقبل التفاوض والخروج عن مسارها الثوري إلى مسار التسوية السياسية الذي كان صالح يحاول جرها بقوة إليه. كما أن مبادرة المشترك ذات النقاط الخمس (1 مارس 2011) ركزت هي الأخرى على قضية واحدة فقط هي نقل السلطة من صالح, والآلية التي يتعين عليه اتباعها وإعلانها للرأي العام. في تلك الأثناء, نجح الثوار والمعارضة في تضييق الخناق على النظام, وأوصدوا أمامه كل الأبواب التي حاول الولوج منها إلى مسار سياسي تفاوضي, عبر فتح ملفات سياسية اُريد منها تتويه الثورة وصرفها عن مهمتها الأساسية. وأخفقت خطة الرجل ونظامه في تحويل الثورة إلى أزمة, عبر استمالة بعض أطراف الثورة (المشترك تحديداً) للدخول في جدل عقيم بشأن قضايا سياسية لاشأن لها بالهدف الرئيس للثورة المتمثل في رحيل صالح ونظامه. عندها سارع صالح إلى ستدعاء حلفائه في الإقليم ليضعهم في مواجهة مباشرة مع الثورة, ويستعين بهم في إمضاء خطته التي فشل في تمريرها بمفرده.

من المبادرة إلى آليتها التنفيذية

نجح صالح بالفعل في استدعاء الدور الخارجي إلى ساحة الثورة, وأطلت المبادرة الخليجية على المشهد, لكنها كانت صادمة له ومخيبة لآماله على نحو سبب له إرباكاً شديداً!! وقبل أن نشرع في توضيح سبب ذلك الإرباك الذي وقع فيه, والذي أدى تالياً إلى إرجاء توقيعه على المبادرة إلى نحو ثمانية أشهر, فإن من الأهمية بمكان العودة إلى صيغة المبادرة الخليجية ذاتها بنسختها الأولى والثانية, لنقف سوية على ما تضمنته بشأن صالح ومطالب الثورة, ولنستبين كذلك طبيعة محتواها الذي أدى إلى إغضابه.

المبادرة الخليجية بنسختها الأولى (3 أبريل)

 وتضمنت النقاط التالية:

1) إعلان الرئيس التنحي ونقل صلاحياته لنائبه.

2) التأكيد على ضمان سلامته وعدم إجراء أي ملاحقة له ولجميع أقاربه وأركان النظام.

3) تشكيل حكومة وحدة وطنية مهمتها تسيير أعمال البلاد لفترة محدودة والإعداد لإجراء استفتاء على الدستور وانتخابات نيابية ورئاسية, ويحق لها أيضاً تشكيل اللجان التي تراها ضرورية.

4) في حال تمت الموافقة من جميع الأطراف على هذه المبادرة يتم دعوتهم إلى الرياض للتوقيع عليها والبدء بتنفيذها الفوري

المبادرة الخليجية بنسختها الثانية (10 أبريل)

وتدعو إلى أن «يعلن رئيس الجمهورية نقل صلاحياته إلى نائب رئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة المعارضة ولها الحق في تشكيل اللجان والمجالس المختصة، لتسيير الأمور سياسيا وأمنيا واقتصاديا، ووضع دستور وإجراء الانتخابات». وتعتمد المبادرة على 5 مبادئ، هي: «أن يؤدي الحل الذي سيفضي عن هذا الاتفاق إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره. أن يلبي الاتفاق طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح. أن يتم انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة تجنب اليمن الانزلاق للفوضى والعنف ضمن توافق وطني. أن تلتزم كافة الأطراف بإزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا. أن تلتزم كل الأطراف بوقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهدات تُعطى لهذا الغرض». الفارق المهم هنا بين النسختين الأولى والثانية للمبادرة هو التنحي. ففي حين أكدت النسخة الأولى على أن " يعلن الرئيس التنحي ونقل صلاحياته لنائبه". دعت الثانية إلى " يعلن رئيس الجمهورية نقل صلاحياته إلى نائب رئيس الجمهورية", دون أن تشير إلى التنحي. لكنهما اتفقتا بالمجمل على رحيل صالح, وهذا هو المهم, وهو ما لم يعجبه.

غضب صالح, لأن المبادرة دعت بوضوح إلى رحيله, وهو مالم يتوقعه! فظل يراوغ هروباً من التوقيع. الأمر الآخر المهم في المبادرة, أنها اقتصرت على وضع خارطة طريق لنقل السلطة, دون أن تتعرض لأية قضايا جانبية أخرى كتلك التي كان يناور بها صالح من قبل, ويحاول بواسطتها أخذ الثورة معه في متاهة. وبالتالي, فقد صبّت المبادرة, من حيث المبدأ, في مصلحة الثورة؛ إذ وفقاً لمقتضاها كان يتوجب على الأطراف المعنية في الداخل والخارج توجيه جهودها صوب هدف واحد فقط يتمثل في تنحية صالح وتسليم سلطاته. بعبارة أكثر وضوحاً, رحيله بهدوء, دون أن نكون مضطرين قبل ذلك للخوض في جدل أزمات النظام المتراكمة, والوقوف الإجباري عند تركته الثقيلة لنحملها على أكتافنا كشرط لازم لاستكمال عملية نقل السلطة وبناء نظام سياسي جديد وفقاً لمشروع الثورة. كان بوسعنا, لو تمسكنا بالمبادرة كما هي, أن نكون متخففين من ذلك الحمل, على الأقل في المرحلة الانتقالية, التي كان من المفترض أن تركز جهودها في اتجاه واحد فقط: نقل السلطة, ولاشيء غيره. فالمبادرة منحتنا فرصة العمل تحت المظلة الدولية والإقليمية, لحشر النظام في زاوية ضيقة, والضغط عليه ليرحل, بعدما صار الأمر رغبة خارجية أيضاً, وأن نمضي لاستعادة الدولة من مختطفيها, دون أن نكون مثقلين بشروط القائمين عليها. لكن صالح كان واعياً للأمر, وأدرك أبعاد المبادرة, وبحسه السياسي المناور والمراوغ, تيقن أنه لو قَبل بالمبادرة كما هي فسيكون ساعتها قد رفع راية الاستسلام مبكراً, وأعطى الثورة جواز مرور منخفض الكلفة, وسمح للمعارضة بأن تنتصر عليه بذات السلاح الذي أراد هزيمتها به.

ولم يُرد الرجل للثورة أن تمر إلى غايتها بهدوء, وللمعارضة أن تنتصر عليه بسهولة, وللسلطة أن تسقط من بين يديه كورقة التوت. فذهب يتحايل على المبادرة, ويحاول تطويعها لمصلحته, لمنع المعارضة من الإفادة منها وجعلها سيفاً مُصلتاً على رقبته. فظل يراوغ ويناور, ويصطنع الأعذار للهروب من توقيع المبادرة (الكارثة) التي ستطيح به بأقل كلفة. وتفتقت ذهنيته عن طريقة شيطانية يحشد بواسطتها كل القضايا التي رفض الثوار والمعارضة مناقشتها معه من قبل, كالحوار الوطني, وملف الأزمات السياسية في الشمال والجنوب, وغيرها, وعمل على استدعائها جميعاً تحت مسمى الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية.. وأصّر حينها على وجود آلية واضحة لتنفيذ المبادرة, على الرغم من أن المبادرة كانت واضحة بما فيه الكفاية, ولم تكن بحاجة لأية آلية لتنفيذ بنودها المقتصرة على قضية أساسية وجوهرية واحدة لا غير, هي تنحيه وتسليمه السلطة. فالمبادرة لم تتضمن أية قضايا فرعية من قبيل الحوار الوطني- مثلاً- أو قضية صعده والجنوب, حتى تكون بحاجة ماسة لآلية تنفيذية تُبين كيفية التعامل مع تلك القضايا الشائكة. وكان بالإمكان إرجاؤها جميعها إلى ما بعد الفراغ من نقل السلطة بشكل كامل, والانتهاء من تمكين الرئيس الجديد من كل صلاحياته السياسية والعسكرية, واجتثاث حكم العائلة, بما يؤمّن بناء نظام سياسي جديد قادر على استعادة هيبة الدولة. ساعتها يمكن الالتفات بكل اطمئنان إلى تلك القضايا الوطنية العالقة, ومعالجتها بروية ضمن رؤية وطنية لمشروع الدولة اليمنية الجديدة, التي لا يتنازعها رأسان, كما هو حاصل الآن. لكن صالح ذهب يستدعي تلك القضايا الشائكة, ويوحي بها لرعاة المبادرة, كي توضع فيما بعد بوصفها آلية تنفيذية للمبادرة! في استغفال واضح لمكونات الثورة, وإلهائهم عن جوهر المبادرة التي وُضعت لحل معضلة تنحيه وتسليمه السلطة. حين أصّر صالح على ضرورة وجود آلية تنفيذية للمبادرة كان يعي جيداً أنه يضع ألغاماً متفجرة في طريق الثورة, لتنفجر عاجلاً أو آجلاً في وجهها. فهو كان يدرك استحالة حصول توافق سياسي- بين الأطراف المتنازعة- على مثل تلك القضايا الحساسة في مثل هذا الظرف الحرج الذي تغيب فيه الدوله, ويتسابق فيه الجميع لانتزاع أكبر قدر من المكاسب, وإملاء شروطهم. وهذا ما بتنا نلحظه اليوم؛ فمن جهة تأخرت عملية نقل السلطة إلى الرئيس الجديد, واحتفظ كبار عائلة صالح والموالون لها بمواقعهم العسكرية والسياسية, ومن جهة ثانية انخرط الجميع في جدل الحوار وأجندته ومكوناته ومخرجاته, حتى صار الحوار مشكلة بذاته. لدرجة أن مصادر سياسية يمنية لفتت إلى ما أسمته وجود مخطط لفصل جنوب اليمن عن شمالها على غرار تجربة السودان. وحتماً فإن الحوار المرتقب, في ظل وجود كيان هلامي من الدولة الهشة, سيشكل بطريقة أو بأخرى, قنطرة عبور لمثل ذلك المخطط. أما بقية المكونات الأخرى للحوار فسيكون بإمكانها, إذا شاءت, رفض نتائج الحوار إذا لم تعجبها ولم تلبِ تطلعاتها. عندها ربما يغدو الحوار الوطني نفسه بمثابة فتيل لأزمة متفجرة قد تأخذ معها الجميع, وتزيد في تعقيد الوضع بأشد مما هو معقد. وهذا ما يطمح إليه النظام السابق ويعمل حثيثاً للوصول إليه, وبذلك يحول دون سقوطه بين يدي الثورة, ويحصل من ثَمَ على فرصة جديدة تؤهله لمقارعة النظام الحالي والحصول منه على مكاسب وتنازلات.

لقد استطاع صالح ونظامه, عبر الآلية التنفيذية للمبادرة, الدفع بمكونات الثورة صوب قضايا وطنية, هي مهمة ولا شك, لكنها لم تكن من صلب المبادرة, ولم يكن يجدر أن تشكل أولوية قصوى على حساب أولوية نقل السلطة, وتحرير المؤسسة الأمنية والعسكرية من قبضة العائلة, وإشعار الناس أن تغييراً حقيقياً قد طرأ. لكن الثورة ومكوناتها التهت عن ذلك بقضايا جانبية ساقتها الآلية التنفيذية, كخطوات لتفكيك الأزمة اليمنية, فيما كانت من شأن منظومة العمل السياسي في وجود المكون الأهم وهو الدولة, التي أضحت, للأسف, الغائب الوحيد في كل ما يعتمل على الساحة. ونتيجة لذلك, يبدو جلياً عدم توافر أية ضمانات حقيقية لنجاح مؤتمر الحوار الوطني القادم, إلاّ فيما يتوافر من ضمانات دولية وإقليمية, باعثها الأساسي مواجهة التمدد الإيراني في اليمن. وبالنسبة للمبادرة, كان بالإمكان العمل مبكراً على تشكيل بعثة دولية لمراقبة ومتابعة تنفيذها على الوجه المطلوب, لا أن تتأخر إلى اليوم. وأياً يكن, فالأمر برمته صار بين يدي الفاعلين الدوليين؛ فإذا أراد هؤلاء استقرار اليمن حقاً, كضامن مهم لمصالحهم فسيعملون على إتمام المبادرة إلى نهايتها, وإخراج صالح وعائلته من اللعبة السياسية, والتفاهم مع اللاعبين الجدد, طبقاً للمتغيرات الثورية. وإذا أرادوا غير ذلك, فستدخل اليمن في نفق مظلم لن يكون من السهولة خروجها منه. وتأسيساً عليه, يغدو الضامن الوحيد, في الوقت الحاضر, للتسوية السياسية التي جاءت عبر الآلية التنفيذية, وللخروج من المأزق الذي يحاصر التسوية والثورة معاً, هو العامل الخارجي, بكل ما يحمل من تداعيات وتأثيرات سلبية على الوضع الداخلي, لكنه أصبح خيار الضرورة الذي لابد منه. وهو نتيجة حتمية لفشل سياسات إدارة الثورة منذ البداية, والتعاطي معها كأزمة, والوقوع في مصيدة الآلية التي ساقتنا بعيداً عن صلب المبادرة, التي مثلت المخرج لو كنا أحسنا العمل.

Swaidi1968@yahoo.com