دلائل وشواهد أثرية: مملكة سبأ تعود إلى بدايات حضارة جنوب الجزيرة العربية

السبت 02 أغسطس-آب 2008 الساعة 06 صباحاً / مأرب برس سبأنت: عبدالله حزام
عدد القراءات 12910

مملكة " سبأ " لم يرتبط تاريخ اليمن السحيق باسم مملكة من الممالك القديمة مثلما ارتبط باسم سبأ التي ورد ذكرها في الكتب السماوية، وحيكت حولها الأساطير، والحكايات والقصص، لتتبدى من خلال الكم المتراكم عبر القرون من الصور والتداعيات والأخيلة العالقة في الوجدان الشعبي وأعمال العديد من الفنانين رمزا تتزاوج فيه معالم الجمال الفاتن، والرخاء العميم، والثروة الوفيرة والقوة المنيعة.

"مملكة سبأ " ليست أسطورة بل حقيقة وجدت في اليمن القديم، وهو ما أكدته آلاف النصوص المنحوتة على الحجر أو المصبوبة في البرونز التي تم اكتشافها في المواقع الأثرية اليمنية، وكان يطلق على أهل تلك المملكة " السبئيون " وعلى لغتهم " السبئية ".

ويشير الدكتور "كريستيان روبان " عالم الآثار الألماني إلى أن كل الدلائل والشواهد الأثرية تؤكد أن السبئيين اتخذوا من منطقة مأرب عاصمة لمملكتهم "سبأ" وانحصار أراضي سبأ في الأصل بمنطقة مأرب، إلا أن مملكة سبأ توسعت في عهد الملك المشهور "كرب أيل"حوالي عام" 700- 680" قبل الميلاد لتشمل كل المناطق الغربية من اليمن، ثم انحصرت فيما بعد في منطقتي مأرب وصنعاء العاصمة السبئية الثانية والتي أنشأت حوالي القرن الأول الميلادي".

ويقول "روبان " أن أقدم الشواهد على وجود مملكة سبأ تعود إلى بدايات حضارة جنوب الجزيرة العربية، ففي أقدم النصوص المكتشفة في اليمن التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، نجد أسم "سبأ" في صفات الملوك المعروفين بـ" مكرب سبأ"، وهي النصوص الأولى التي تتميز بقصرها، والمنحوتة على الحجر تخلد الانتهاء من أعمال التشييد بتقديم الأواني الطقسية كقرابين، وكانت مملكة سبأ كانت آنئذ ثيوقراطية " دينية " تقوم على العبادة الجماعية لبعض الآلهة.

ويضيف "روبان" قائلا: تسنت كتابة تاريخ مملكة سبأ بفضل الآثار المهمة والمتنوعة وبفضل النقوش التي تعد بالآلف، والموزعة على الفترة مابين القرن الثامن قبل الميلاد والعام 270 بعد الميلاد، وهو التاريخ الذي شهد ضم سبأ إلى مملكة حمير.

النقوش السبئية

ويصنف عالم الآثار " كريسيان روبان " النقوش السبئية إلى نوعين الأول النقوش المعتني بها، المحفورة أو المصبوبة على حوامل ثابتة، والمعدة للعرض، وتسمى حسب "روبان" النقوش النصبية أو التذكارية، وهي في معظمها تخلد أداء الشعائر الطقسية من أجل تذكير الآلهة بمزايا القائمين بها وإتمام الأعمال الإنشائية من أجل إرساء حقوق الملكية، وإما أنها القوانين واللوائح أو المحظورات.

أما النوع الثاني من النقوش السبئية فهي النقوش ذات الاستخدام الخاص، وهي محفورة في أحرف متصلة على قضبان خشبية صغيرة أو على سعف من النخيل، وهي تمثل في المقام الأول مراسلات أو عقود بين الأفراد.

وفيما يتعلق بتميز النص السبئي عن غيره، قال "كريستيان روبان" يتم الحكم بالأصل السبئي للنص بالنظر إلى لغته، والآلهة الواردة فيه، وكذلك الأمكنة والمؤسسات خاصة التقويم الذي ينتمي إلى سبأ، مؤكدا أن استخدام اللغة السبئية لوحده لا يكفي للحاكم بسبئية النص، فقد استخدمت اللغة السبئية من قبل مملكة حمير من 110 قبل الميلاد حتى 560 بعد الميلاد، ولان هذا العام يؤرخ لأخر النصوص المكتوبة باللغة والأبجدية السبئية.

وعن تأثير سبأ على محيطها الإقليمي قال عالم الآثار الألماني: "اللغة السبئية هي الوحيدة التي جرى استخدامها في أسماء الأعلام في جنوب الجزيرة العربية، إذا كان أسم الشخص يحتوي على ضمير ملكية أو فعل متعدى إلى مفعولين، فهذه أشكال نحوية تختلف في اللغة السبئية عنها في اللغات المعنية والقتبانية والحضرمية.

وأضاف:" كذلك في ميدان العمارة فان الأعمدة المضلعة وتيجان الأعمدة ذات المقاطع المربعة والزخرفة بالحز والمضروسات أو زخرفة الواجهات بإفريز مطوق مصقول موشى في الوسط، فان الذخيرة الزخرفية والتصويرية تقدم أيضا مثالا جيدا للتأثير السبئي.

ويقول: انه ليس هناك ثمة شك بالنسبة لسكان جنوب الجزيرة العربية القدماء، وكذلك بالنسبة للممالك الحبشية الأولى كانت سبأ مصدر شرعية وفخر، ويجب التمييز بين فترتين في تاريخ مملكة سبأ، الأولى استمرت من القرن الثامن حتى القرن الأول قبل الميلاد وطغى عليها اقتصاد " القوافل " الموجه صوب الأسواق الكبيرة في الشرق الأوسط، في حوض الفرات الأوسط، خلال القرنان الثامن والسابع، ثم في غزة في الفترة " الفارسية "، وأخيرا في البتراء إبان الفترة " الهيلينية".

ويؤكد الدكتور "كريستيان روبان " أن توفر موارد كبيرة من زراعة النباتات العطرية في صحراء جنوب الجزيرة، مثل اللبان الذي يوحد في حضرموت على وجه الخصوص والمر، وبعض المنتجات الهندية والأفريقية القيمة التي كانت تمر عبر الجزيرة العربية، مثل الذهب والعاج ودرق السلحفاة وأنواع مختلفة من الأخشاب النفيسة، فرضت سبأ نفسها كوسيط لا بد منه.

الاستكشاف الأثري لمملكة سبأ

ويرجع " روبان " اكتشاف " سبأ " إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما قام الفرنسي جوزيف آرنو بأولى البعثات الأثرية لهذا الغرض، حيث قام " أرنو " الذي كان يعمل لدى إمام صنعاء حينها، خلال الفترة من 12 ـ 25 يوليو العام 1843م، بنسخ 56 نقشا سبئية بالمسند من منطقة سد مأرب القديم ومعبد " أوام " في مدينة مأرب التاريخية ومنطقة صرواح.

وبعد " آرنو " جاءت العام 1870م، بعثة "جوزيف " الذي رافقه حاييم حبشوش، وهو يهودي من صنعاء في رحلة إلى شرق اليمن زار خلالها الجوف ونجران ومأرب، واكتشف العديد من المواقع الأثرية وعاد بنسخ 686 نقشا، شكل نشرها ودراستها البداية الحقيقية لدراسات جنوب الجزيرة العربية.

وفي فترة " 1882 ـ 1894 " جاء النمساوي إدوارد جلاسير، كانت النتائج التي تحصل عليها غير مسبوقة خاصة في مجالات علم الكتابات المنقوشة وعلم الآثار وعلم الأعراق وعلم الخرائط وعلم الفلك الشعبي، زار جلاسير مناطق شمال صنعاء ووصل إلى مأرب في ثياب عالم ديني باسم مستعار هو الفقيه حسين بن عبدالله البراعي نسبة إلى براع الأمر الذي يدل على معرفة دقيقة باللغة العربية.

ويعود تاريخ أولى الحفريات الأثرية إلى العام 1928، حين تمكن المكتشف الألماني " كارل راتجينس"، بمساعدة الجغرافي "هيرمان ويسمان"، من العثور على معبد صغير في منطقة الحقة، على بعد 23 كيلومترا شمال الشمال الغربي من صنعاء.

وفي شتاء عام 1951-1952 شهد ت مدينة مأرب أول تدخل أثري، حيث بدأت بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسات الإنسان بالكشف عن معبد أوام.

وبدأت دراسة الآثار السبئية في الازدهار العام 1970 ، بعد وصول فرق أثرية سوفيتية في الفترة " 1969-1971 " ، وبعثتان الأولى فرنسية وأخرى ألمانية العام 1971، وبدأت الحفريات الأثرية المنتظمة في مأرب وصرواح منذ العام 1980م من قبل المعهد الألماني بصنعاء.

شواهد سبئية

محرم بلقيس " معبد برآن ".. تشير المصادر التاريخية والأثرية إلى أن معبد ( برآن) يعد المعبد الرئيسي للإله ( المقة ) إله الدولة السبئية، ويطلق العامة على أطلاله ( محرم بلقيس )، ويرجع تاريخ بناءه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أي إلى زمن المكرب السبئي " ، الذي يدعى آل ذرح بن سمه علي " الذي قام بتسوير حائط المعبد.

وقال الدكتور "بوركهارت فوكت " رئيس فريق المعهد الألماني للآثار الذي عمل الحفريات الأثرية في موقع المعبد خلال الفترة " 1988 ـ 1997 " ورئيس فريق التدعيم والصيانة " 1998 ـ 2000 " ، أن المعبد تطور في القرن التاسع قبل الميلاد من معبد بسيط إلى مجمع شامل يضم مرافق العبادة وورش العمل ومطبخ ومرافق صغيرة لأغراض الأعمال الاقتصادية.

ويضيف" فوكت" في تقرير نشر حديثا:" ان المعبد استخدم على مدى 1500 عام على الأقل وبشكل مستمر". وأشار إلى إن معبد آلهة المقة ـ معبد برآن أهم المقدسات التابعة لعاصمة السبئيين مأرب.

ويتألف بناء محرم بلقيس من سور بيضاوي، تقدر أبعاد المنطقة الواقعة داخله بـ 100 متر طولاً و 75 متراً عرضاً، وارتفاع السور بين 9- 9.50 متر، وسمك جدار السور ما بين 3.90 متر إلى 4.30 متر، ويوجد المدخل الرئيسي للمعبد في الجهة الشمالية الشرقية من السور، ويتكون هذا المدخل من فناء مستطيل أبعاده 23.97 × 19.15 متر، والفناء محاط بأعمدة حجرية يبلغ طولها ما بين 5.30 - 4.95 متر ، وللمدخل باب واحد يؤدي إلى داخل الفناء البيضاوي، وله ثلاثة أبواب تطل إلى الخارج على بناء آخر، وحائط المدخل مزين بزخارف وببعض الأشكال الهندسية المتنوعة.

وقد عثر أثناء التنقيب على عشرات النقوش وعلى مجموعة من التماثيل، كما عثر أيضاً على عدة ألوان ومناضد حجرية مزخرفة.

وبحسب تقرير "فوكت " يحتل معبد ( برآن ) مكانة مميزة بين بقية معابد الإله المقة سواءً تلك المشيدة في مأرب ، أو تلك المنتشرة في أماكن بعيدة عن حاضرة الدولة السبئية كمعبد المقه في صرواح ، ومعبد " هيران " في عمران ، ومعبد " ميفعم " بالقرب من خمر وغيرها.

وتمثلت هذه الأهمية بأنه كان رمزاً للسلطة الدينية في سبأ، وكان لازماُ على الشعوب والقبائل التي ضمت إلى الدولة السبئية زيارة معبد ( برآن ) وتقديم القرابين والنذور لإله المقة سيد ( برآن ) تعبيراً عن الخضوع والولاء للدولة السبئية.

وإضافة إلى ذلك كان معبد برآن من أشهر الأماكن التي يحج إليها اليمنيون وغير اليمنيين - وهو حج له شعائره وطقوسه الخاصة به - وكانت زيارات الحجيج تجرى في مواسم محددة من كل عام ، فقد كان هناك مواسم الحج الجماعي الذي يجري خلال شهر ( ذأبهي )، أما موسم الحج الفردي الذي يختلف شعائره وطقوسه عن الحج الجماعي، فقد كان يجري خلال شهر ( ذي هوبس ).

وظل معبد برآن مكاناً مقدساً تمارس فيه العبادات إلى بداية النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، ويبدو أن المعبد هجر بعد ذلك، وهو ما يتوافق مع ظهور العبادات ( إله السماء والأرض ) وعبادة الرحمن ( رحمنن ).

وأصبح محرم بلقيس ومنطقة مأرب قبلة للسياح وموضوعا مهما للبحوث الأثرية، خاصة بعد ان أصبح أول المواقع الأثرية يجرى له عمليات التدعيم والصيانة يتم فتحه أمام السياحة.

ولا يزال جزءاً كبيراً من الآثار اليمنية مطموراً تحت الأرض، حيث يعتقد علماء الآثار إن إزالة التراب عنها قد يعيد النظر في الحضارات القديمة.

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة سياحة وأثار