وقفات على طريق ابتغاء مرضاة الله
زيد علي باشا
زيد علي باشا

لطالما سألت نفسي منذ أن غادرت اليمن للدراسة الجامعية و طلب الخبرة العملية عن واجب المسلم نحو وطنه الذي ينتمي إليه، و ما إذا كان للمسلم أن يختار أين يبذل جهده و ماله أم أن الإسلام يفرض أولويات لبذل الجهد و المال، و ما إذا كان على المسلم المهاجر العودة إلى وطنه وجوباً أم أن له الخيرة و في كلٍ خير. إلا أن تساؤلاتي تلك حول الهجرة و الوطنية، بمعناها السياسي الحديث و العاطفي الفطري، رجعت بي إلى السؤال الأساسي ألا و هو: ما السبيل إلى ابتغاء مرضاة الله في هذا الزمان و قد اختلطت بالمسلمين الأمم و تعددت مواطن الإسلام؟

إن غاية كل مسلم في هذه الحياة الدنيا هي ابتغاء مرضاة الله سبحانه و تعالى. و لكن ما السبيل إلى ذلك؟ هل السبيل هو التصدي لكل من اعتدى على الحرمات و المفسدين في الأرض و الظالمين ثم الإصلاح و الإعمار، أم جمع شمل المسلمين و توحيدهم، أم التفرغ لأداء المناسك و الشعائر و كسب الرزق و طلب العلم حتى يأتينا أمر الله، أم نشر الإسلام و تبليغ رسالته و الدعوة إلى الله حتى يهتدي كل أهل الأرض، أم ماذا؟ و كيف تلتقي هذه السبل عند بلوغ منتهاها مع غاية الإنسانية في الحياة الدنيا؟

أم أنها كل ذلك باعتبارها جميعاً مطلوبة و لا بد منها؟ كيف نستجيب لضروريات الحياة الملحة و ما قدر التضحية و ما جدواها؟ ما حدود العمل بالأسباب و ما هي سنن الله الكونية التي تخضعنا و كيف و متى و في أي الأمور نتوكل على الله؟

هي أسئلة كثيرة تركتني ضالاً عن طريق ابتغاء مرضاة الله لما حار عن إجابتها عقلي فانشغل بها قلبي و عقلي انشغالاً و استوحشت نفسي زيارة قبري. هي الأشواق الطائرة إلى الجنان و القلق من المسافات الشاسعة بيننا. هي أمواج الطموح فإما حائرة متلاطمة في عرض البحر تعلوها سماء متجهمة موحشة، و إما متحطمة على شاطئ الواقع الأليم.

ليس لي إلا أن أقف على هذا الطريق وقفات تأمل راجياً الله سبحانه و تعالى أن يهدينا جميعاً و يصلح بالنا و أن يوفقنا لما يحبه هو و يرضاه.

* * * * *

مصارع الطامحين

قد يصرع أصحاب الطموح طموحهم، و يهوي بهم إلى الأرض، و لو بعد حين، لو أنهم ظنوا أن الطموح و علو الهمة و كثرة الاجتهاد و طول التفكير و التخطيط و التدبير يغنيهم عن هدى الله و توفيقه، فما توفيقنا جميعاً إلا بالله، و ما يهدينا إلى الله و إلى صراطه المستقيم إلا الله، فهدى الله هو الهدى، و ليس تفكير المفكرين و تأمل المتأملين و علم العالمين و عمل العاملين و تخطيط المخططين و حسب، و إن كان كل ذلك مطلوباً إلا أن آفاقه ضيقة.

و اقرأ:

"ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير" (الملك ١٤)

"الذي خلقني فهو يهدين" (الشعراء ٧٨)

"و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين" (الصافات ٩٩)

"يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله عليم حكيم"(النساء ٢٦)

"إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم" (يونس ٩)

"فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل و يهديهم إليه صراطاً مستقيماً" (النساء ١٧٥)

و هداية الله للمؤمنين درجات كما قال عز من قائل:

"و الذين اهتدوا زادهم هدىً و ءاتاهم تقواهم" (محمد ١٧)

فمن لم يطلب هذه الهداية من الله فقد تكبر، و الله أكبر، و توكل على نفسه، و أخذ على عاتقه مصارعة هذه الدنيا، فلن يفلح إذاً أبداً، و يضله الله على علم، ذلك أنه اتخذ إلهه هواه و لم يتخذ سبيل الله. فابتغاء مرضاة الله يبدأ بطلب الهداية و التوفيق منه، و ذلك كمال العبودية لله. و لو لم يكن الأمر كذلك لما علمنا الله أن نردد:

"إياك نعبد و إياك نستعين. إهدنا الصراط المستقيم"

ثم يوفق الله.

* * * * *

سبل متعددة

لا أعتقد أن هناك جواباً واحداً لهذه التساؤلات، و لا ينبغي أن يكون هناك جواباً واحداً و جوانب الحياة متعددة فذلك تضييق لواسع. و يدلنا إلى ذلك قوله تعالى:

"و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين" (العنكبوت ٦٩)

فلا يفرح كل حزب بما لديه و لا كل ذي رأي برأيه و لا يزايد أحد على أخيه و لا يظن به الظنون إلا أن يأتيه وحي السماء. فليس الطريق واحد، و لكن الوجهة واحدة لا تتبدل حتى نلقى الله. و وحدة الهدف، أو بتعبير آخر، وحدة نقطة الوصول، لا تقتضي بالضرورة وحدة خطوط السير نحوها.

* * * * *

لله و إلى الله عاقبة الأمور

و اقرأ:

"الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و ءاتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور" (الحج ٤١)

"و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى و إلى الله عاقبة الأمور"(لقمان ٢٢)

ليس المطلوب منا أن نحقق نتائج بعينها فذلك شأنه سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء و ينتهي بنا نحن عبيده إلى حيث يشاء، و لكن المطلوب منا العمل وفق منهجه و سنة نبيه، و أقتبس هنا من كلام أحد المفكرين معلقاً على أصحاب الأخدود و ما انتهوا إليه كما ورد في القرآن:

"إن لله حكمة وراء كل وضع و وراء كل حال، و مدبر هذا الكون كله المطلع على أوله و آخره، المنسق لأحداثه و روابطه، هو الذي يعرف الحكمة المكنونة في غيبه المستور، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل."

الإسلام لا يدعونا أبداً إلى جني الثمار في الدنيا، فما العيش إلا عيش الآخرة، و ما الثواب إلا ثواب الآخرة، و إنما يدعونا إلى ابتغاء مرضاة الله و ثواب الآخرة.

"و الآخرة خير و أبقى" (الأعلى)

من أجل ذلك كانت الأعمال بالنيات، و في ضوء ذلك يمكن أن نفهم حديث الرسول صلى الله عليه و سلم:

"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر"

و كذلك:

"عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"

و يعزز هذا الفهم آيات أخرى كثيرة ينسب الله عز و جل فيها فعل تغيير أحوال المجتمعات الإنسانية إليه سبحانه منها:

"فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى و و لِيُبلِىَ المؤمنين منه بلآء حسناً إن الله سميع عليم" (الأنفال ١٧)

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد ١١)

"ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و أن الله سميع عليم" (الأنفال ٥٣)

و لا تعارض بين هذا الفهم و بين وعد الله بنصر المؤمنين و تمكينهم، و لكن نقول أنه ليس للناس أن يغيروا أحوالهم و واقعهم حسب مشيئتهم و ليس لهم أمر ذلك، و أن أسباب النصر و التمكين لا تنتهي عند العمل بالأسباب و حسب، بل هي أيضاً خاضعة لمشيئته و حكمته سبحانه، شأنها في ذلك شأن كل أمور الحياة كالرزق مثلاً.

* * * * *

ليست المسألة إذن مسألة قومية أو وطنية أو حزبية أو مذهبية أو غير ذلك، بل هي أبعد من كل هذا. هي أننا قد خصنا الله بمهمة في الأرض دون سائر خلقه و قد قُضي أمر ذلك. هي أننا يجب أن نعمل بمقتضيات هذه المهمة و موجباتها وفق هديه و إرشاده لا وفق هوانا، فنحن لا نخلف غائباً بل ملكاً حاضراً يعلم ما في السماوات و الأرض و هو على كل شئ قدير.

هي أن ابتغاء مرضاة الله تحرر من كل قيود الأرض الإيديولوجية لتحلق النفس البشرية تحليقاً إلى ربها مهتدية بنوره الذي تراه القلوب التي في الصدور. هي أن ابتغاء مرضاة الله سبل و أن هذه السبل تتعدد بتعدد الأزمنة و جوانب الحياة و أحوال الناس. هي أن ابتغاء مرضاة الله لذاته سبحانه و رجاء رحمته و فضله في الآخرة قبل الدنيا.

فلتصغر الحياة إذن في أعيننا. ففناءها معلوم و قصرها معلوم و لا حول لنا و لا قوة إلا بالله. قد علم ذلك كل من لم تثقل روحه هذه الدنيا بل من حلقت روحه بتدبر القرآن و الالتفات إلى آياته الكونية. فلتحلق أرواحنا و لتصغر الدنيا في أعيننا فلا تكون الدنيا مبلغ علمنا و لا منتهى آمالنا بل مرضاته تعالى. فهل بعد هذا رفعة و هل بعد هذا تحليق و هل بعد هذا شرف و تكريم؟

إننا شباب اليوم ليتنازعنا ماضينا التليد و شوقنا إلى صناعة مجد جديد، و لكني أرجو من الله أن يتقبلنا عنده بصالح أعمالنا و أن يستعلمنا لنصرة دينه و أن يمكن بنا هذه الأمة الأرض، شهدنا ذلك أم لم نشهد، إن علم أننا لا نبتغي بهجراتنا و دراساتنا و كتاباتنا و أقوالنا و جميع أعمالنا و آمالنا إلا مرضاته خالصة لوجهه الكريم، فيجعلنا للمتقين إماما، و للحق أنصارا، و أن يهدينا إليه كما هدى أصحاب الكهف، و الخليل إبراهيم، و موسى حين خرج من مصر و حين سار بقومه إلى البحر لا يعلم المصير، و يوسف الصديق صاحب السجن، و الحبيب المصطفى صاحب الغار، و لو بعد حين.

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت ولي الهداية و التوفيق.


في السبت 28 أغسطس-آب 2010 09:38:04 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=7820