شبام حضرموت .ناطحات سحاب اليمن
عثمان تراث

كان لمدينة ناطحات السحاب الطينية في اليمن المعروفة بشبام نصيبا وافرا من كارثة السيول والأمطار التي لحقت بمحافظة حضرموت في الأيام الماضية. إذ حاصرت مياه السيول المدينة العريقة من جميع الاتجاهات وتسببت مع الأمطار الغزيرة المتصلة في تآكل سور المدينة التاريخي وهبوط التربة تحت بيوتها التي يمتد عمرها لمئات السنوات، وجرف محطة مياه الصرف الصحي بالكامل. وفيما شملت الخسائر تهدم وانهيار أكثر من عشرين بيتا من تلك البيوت الثمينة، فان تشبع بقية المنازل بمياه الأمطار يهدد بكارثة اكبر يمكن أن تلحق بواحدة من أهم مدن التراث العالمي.

عادي جدا أن ترى عمارات شاهقة تناطح السحاب في الكثير من مناطق العالم.. ولكن من المدهش أن تكون تلك العمارات مبنية من الطين، وأن يكون عمرها مئات السنين.. ذلك ما يم كن أن تشاهده في وادي حضرموت حيث تتراص هذه العمارات لتكوّن مدينة "شِبام" التي تُعد أهم مدن تلك المنطقة من اليمن. وهنالك لا يمكنك إلا أن تقف مشدوها أمام بنايات شمخت لتحكي عن واحدة من أعرق الحضارات البشرية في العالم، وتعكس تاريخا متميزا لفنون العمارة اليمنية.

ادخلَ المدينة.. ادخلَ عالما مختلفا وزمنا آخر، سحر عجيب يغمرك وأنت تتجول هناك، ودهشة لذيذة تنتابك وأنت ترفع راسك أقصى ما يمكن لتكتمل الرهبة بما قيل انه أول ناطحات سحاب في العالم.

وهناك لا تخشى شيئا فالسكان طيبون جدا.. نساء يمشين في الشوارع بسكون، ورجال بشوشون يحتسون القهوة أو الشاي تحت ظلال البيوت الشاهقة، يرمقونك بنظرة حب وابتسامة ودودة، وربما يدعونك لمشاركتهم. وإذا طلبت من احد الصبية أن يدخلك بيت أسرته لترى منازل شبام من الداخل فهو لن يتأخر في تلبيه طلبك.

من تاريخ شبام

يتفق الكثير من الباحثين على أن مدينة شبام الحالية بُنيت قبل نحو سبعمائة عام من الآن. لكن لشبام تاريخ أقدم من ذلك بكثير: يقول مؤرخ اليمن المعروف أبو محمد الحسن الهمداني (ولد في 893م وعاش إلى ما بعد 947م) أن شبام بُنيت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وأشارت روايات أخرى إلى أنها بنيت في القرن الخامس قبل الميلاد وأصبحت معروفة في القرن الثاني. وتوضح الموسوعة اليمنية أن أقدم ذكر لشبام يعود إلى القرن الرابع الميلادي، وأن هذه المدينة ذُكرت في نقوش المسند باسم (شِبَم) ضمن مملكة حضرموت.

وتحكي روايات أن أهل شبوة- وهي منطقة معروفة في اليمن ومحافظة من محافظاتها الحالية- هم الذين أسسوا شبام، وإليهم يرجع اسمها؛ فكان هذا الاسم قديما "شِباه".

وترجّح روايات أخرى أن شبام سميت بهذا الاسم نسبة إلى ملك قديم من ملكوها يدعى (شبام بن حضرموت بن سبأ الأصغر). ويرى البعض أن كلمة "شبام". ربما تكون اسما لأحد الملوك، أو كاهنا، أو قائد كبيرا؛ بدليل انه توجد في اليمن عدة مناطق ومدن أخرى تعرف باسم شبام، مثل "شبام كَوْكَبَان" و"شبام الغراس" و"شبام حراز".

وتعرضت شبام للهدم وأعمال التخريب في عدة حقب بسبب الحروب والفيضانات والسيول حتى صارت بهيئتها الحالية منذ سنة 699 هجرية.

وصف المدينة ومنازلها

تقع مدينة شبام على ربوة ترابية تحيط بها أراض زراعية من كل الجهات تقريبا، وبُنيت منازلها من اللِّبن، وهو نوع من قوالب الطين الني (غير المحروق) المخلوط بقليل من الحصى والتبن وعروق الشجر. ويحكي موقع المدينة الحصين والسور الذي يحيط بها، عن قِدمها وعراقتها. شوارعها ضيقة تتلوى تحت عمارات تسمق مابين سبعة إلى ستة عشر طابقا بارتفاع يصل إلى نحو أربعين مترا. وتحتفظ بذوق وانسجام جمالي لا تخطئه العين.

يصل سمك جدران الدور الأرضي للمنزل الشبامي إلى نحو مترين، ويتناقص هذه السمك كلما اتجه البناء للأعلى ، وعادة ما تطلى المنطقة العليا من المنزل بطبقة من الجير الأبيض. ويكتمل سحر هذه البيوت بزخارف ونقوش فريدة نقشت على أبوابها الخشبية العتيقة.

داخل منازل شبام

يقدم موقع (شبكة شبام حضرموت) وصفا مفصلا للمنزل الشبامي، فيوضح أن الدورين الأرضي والأول لا يستعملان للسكن، ويحتوي الأرضي على غرفة صغيرة تفتح على الشارع تسمى (الضيقة) وتستخدم كدكان. ويوجد في هذا الدور ممر صغير يؤدي إلى سلم يرتكز على عمود يشكل دعامة المبنى الأساسية ويسمى (عروس البيت)، ويؤدى السلم إلى الأدوار العليا من المنزل. ويُبنى (العروس) في الغالب من الطين الذي يجصص بالرماد لتقويته؛ وهو يمتد على طول ارتفاع المنزل وتبلغ مساحته في المسقط نحو ثلاثة أمتار مربعة. وتستخدم بقية المواقع في الدور الأرضي والأول كمخازن، ويخصص في الدور الأرضي مكان لمبيت المواشي.

يلي الطوابق الأولى الأدوار المخصصة للرجال واستقبال ضيوفهم واحتضان أنشطتهم الاجتماعية. وتتميز الغرف في هذه الأدوار باحتوائها على زخارف ونقوش بديعة، وأعمدة خشبية رشيقة تنتصب في الوسط.

تم تأتي الأدوار المخصصة للنساء وتسمى (المراوح)، وصُممت بحيث تسمح للنساء بالانتقال إلى منازل الجيران عبر جسور ممتدة بين المباني، كما تسمح للرجال، في أوقات الحروب، بالتنقل من مبنى إلى آخر دون الاضطرار للنزول إلى الشارع.

أما الأدوار العليا المتبقية، وتسمى (مابين الطيارم)، أي مابين السطوح، فتوجد فيها غرف صغيره، وشرفات، وسطوح متصلة بغرف منفتحة نحو السماء تسمى (الريوم).

من أسرار البناء

تكشف دراسات حديثة بعض أسرار قدرة المنازل الشبامية على البقاء سليمة لمئات السنين. فتوضح أن تلك المنازل حُفر لها أساس عريض يصل عمقه إلى متر أو مترين، تبُسط عليه طبقة من روث الماشية تُرش فوقها طبقة من الملح، ليلي ذلك رص أعواد من الشجر توضع من فوقها طبقة من الرماد. ولتسويه الأساس توضع قطع غير مصقولة من كسارة الحجر.. وبعدها تبدأ عملية البناء بالحجر أو الطوب الني لرفع الأساس فوق سطح الأرض بارتفاع متر بغرض تدعيمه، وحماية الجدران الخارجية للدور الأرضي من التآكل والتساقط. ويستخدم الرماد أو الطين لربط الحجارة بعضها البعض.

ويُلبس الجزء الأعلى من الجدار بطبقتين من الطين المخلوط بالتبن والرمل.. وتأتي بعد ذلك عملية التجصيص بالنورة (مادة جيرية) أو الرماد. أما السقوف فهي تُرفع من أعواد الخشب التي ترص بانتظام ثم تغطى بحصيره من سعف النخيل توضع فيها طبقة من الطين. ويوجد في مدينة شبام نظام قديم للصرف الصحي يتم عبره تصريف المياه المستخدمة عبر قنوات عمودية مكشوفة نحو الأعلى تنقل المياه إلى قناة مشتركة في الأرض تصرفها إلى خارج سور المدينة.

من معالم شبام

يعد جامع شبام أبرز المعالم الإسلامية القديمة في شبام حضرموت. ويقال أن تشييده تم في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد. وهناك أيضا مسجد الخوقة الذي كان مركزاً للاباضية حينما كانت شبام منطلقا رئيسيا لهم في الماضي.

ويمكن للزائر أن يشاهد أجزاء من القصر الشمالي أو حصن شبام الذي بُني في 1220م، وكان مقراً للحكام الذين اتخذوا شبام عاصمة لهم، ويُعد حتى الآن من أجمل المباني في المدينة.

وبنى سكان شبام في القرن العاشر الهجري سد (الموزع) لحماية المدينة من السيول.. ورغم أن السد بنى من الحجر والطين والرماد إلا انه ظل صامدا وموجودا حتى الآن يودي دوره في حماية المدينة وتوفير المياه للري.

أما السور الذي يحيط بالمدينة فقد بني من الطوب الطيني بغرض تحصين المدنية قديما، ويتراوح ارتفاعه مابين 7.5- 9 أمتار. وتوجد به بوابة وحيدة كانت تغلق ليلا.

ولكل ما تتصف به شبام حضرموت من مميزات معمارية فريدة ومعالم نادرة ضمت اليونسكو مدينة شبام إلى قائمة مدن التراث الإنساني العالمي في منتصف ثمانينات القرن العشرين، ونفذت فيها العديد من المشاريع الهادفة إلى المحافظة عليها وصيانتها وترميمها والحفاظ على طابعها التاريخي وحمايتها من هجمة البناء المسلح.

* المصدر - إذاعة هواندا


في الجمعة 31 أكتوبر-تشرين الأول 2008 07:42:50 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=4366