نصيحة لأهلي في مأرب
بقلم/ علي قاسم البكالي
نشر منذ: 9 أشهر و 8 أيام
الأربعاء 19 يوليو-تموز 2023 10:26 م

لا تصادموا الباحثين ومن لهم مراجعات في التراث الإسلامي، فإنكم بذلك تدفعون الجيل القادم إلى مغادرة التدين إلى الفكر الحر. المراجعات والنقد العلمي للتراث أحد أهم أسباب تطور الأمم، ذلك أن التراث يحمل في طياته داخائل كثيرة من موروثات مراحل الانحطاط والتخلف، ولا يمكن أن يكون التراث بكل دخائله وتخليطاته جسرا للعبور إلى الحاضر والمستقبل.

كل الأمم حينما تفكر في مغادرة تخلفها تعود بالدرجة الأولى لنقد تراثها وتنقيته من الخرافة والتدليس والجهالة والصنمية وكل ما يقيد العقل والابداع. وإن هي لم تفعل ذلك فإنها ستظل حبيسة بين تقليديتين صنمية الماضي وأفكاره وخرافاته، وتخليطات الوافد وحمولاته من نفايات الأمم، فتصبح إما صورة لمقابر الزمن، أو مسخا مقلدا لشخصية الغير. أوروبا ما بين القرن الرابع إلى السادس عشر أقامت محاكم التفتيش، وزجت بكل من يقول بغير تراث الكنيسة وتخبيصاتها إلى السجون وإلى المشانق.

فكانت النتيجة ثورة تحرر وتنوير أخرجت الكنيسة والدين من حياة أوروبا العامة والخاصة، وجعلتها مجرد لافتة للذكرى، وطقوس لشراء الغفران. وأخشى أن يدفع المتشددون العرب واليمنيون لظهور جيل جديد يستبعد الفكر الديني من خارطته الذهنية برمتها، فالعالم اليوم يقبس من بعضه، والتجارب تتكرر وتنتقل من أمة إلى أخرى.

البحث العلمي ليس جريمة، ولو كان فج العبارة وصادم الأسلوب، ومراجعة التراث الإسلامي- ما دون القرآن والنبي الكريم- ونقده وتصويبه ليس حراما ولا ممنوعا. وتجريد الأشخاص من ادعاء القداسة المزعومة التي ألصقها الجهال بهم ليصبحوا آلهة تعبد من دون الله، ليس جريمة، ولا ينقص ذلك من قدرهم شيء، بل يعيدهم إلى طبيعتهم البشرية كغيرهم، وهي منهجية القرآن الكريم وتوجيهاته حتى للنبي ص" قل إنما أنا بشر مثلكم".

لا تحاولوا تكميم أفواه الباحثين وأصحاب النقد والمراجعات للتراث من خلال السجون والترهيب، فأنتم بذلك تسهمون في تحويل النقد العلمي للتراث إلى ثورة عنيفة كما فعلت محاكم التفتيش في أوروبا. عليكم أن تناقشوا كل ناقد وباحث في التراث، وان تجادلوهم من خلال المنتديات الثقافية ومراكز الأبحاث العلمية، لتصلوا جميعا إلى صيغة مقبولة لتعديل وتصويب التراث تحفظ للمجتمع دينه، وتحافظ عليه من التحولات العنيفة.

خذوها مني نصيحة محب قارئ ومطلع وملم بتجارب التغيير في الأمم، لا يمكنكم وقف عجلة التغيير الثقافي بعد اليوم في اليمن ولا البلاد العربية. لقد أكتشفت الأجيال أن ما سمي بالإصلاح الديني العربي في القرن المنصرم، كان مجرد ديكور أعاد انتاج التراث الديني بكل غواشيه، وحافظ على كل تناقضاته وخرافلته وتخليطاته، وأعاق الأمة عن استلهام فكرة النهوض، بجرها قهرا إلى زمن الطوائف والمذهبيات، لسلبها الشروط النفسية والدافعية الحضارية التي كانت قد تخلقت قبل قرن ونيف في ظرف الحضور الاستعماري، واستلاب المقومات الذاتية والتاريخية للشعوب العربية من خلال بعث صراع الطوائف والممذهبيات لتصبح فكرة النهوض مجرد ذكرى أليمة يعزف عنها اليمنيون والعرب.

وإن ما يجري اليوم في اليمن وبعض البلدان العربية من عودة للذات الحضارية، ومراجعة للتراث وإنكار لخرافاته، وغربلة لتخليطاته ليست مجرد نزوة فردية، أو رغبة في المعارضة للواقع الأليم بمقولات انتقامية، وإنما هي اندفاعة الأجيال لتكسير الأغلال والقيود الفكرية والثقافية التي كانت ولا تزال الموجه الأول والأخير للاستبداد والكهنوت والاستغلال والاستعمار والاستعباد والاستبعاد والعنصرية والطبقية، والسبب الرئيس لحياة الفقر والجهل والخرافة والتخلف. ولن تستطيعوا أن توقفوا عجلة التغيير بالمصادمة العنيفة، أو عبر محاكم التفتيش، لأنها ثورة وعي، وثورات الوعي لا يوقفها الصدام والترهيب، بل تجد في ذلك سعيرها واضطرامها.

وإن الأسلوب الأجدى لليمن ولكم ولجيل التغيير، بدلا من تكميم الأفواه واتباع محاكم التفتيش، هو القبول الضمني بفكرة التغيير الثقافي، ومراجعة التراث، واستبعاد صنمياته وتخليطاته وجهالاته، واستبعاد كل ما هو سبب أو دافع للصراع أو الطبقية أو العنصرية، أو على الأقل تجنيبها عن الحياة العامة، وذلك عبر تبني الحوارات الهادفة والمنتديات الفكرية الراقية، والبحث العلمي الجاد، وتشجيع خلطة الباحثين الناقدين بالمتشددين، ليصل الجميع إلى الاعتدال والقبول بالتغيير التدريجي، دون توتر ولا ممانعة ولا مصادمة.